من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة
11 نوفمبر, 2021الغرب وحقوق الإنسان
23 ديسمبر, 2021منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة
الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
التعريب: محمد خالد الباندوي الندوي
الشمول والوسطية:
تُعدُّ شخصية العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي –رحمه الله تعالى-متنوعة الجوانب، متعددة الجهات، فقد تحدث عن كثير منها المتحدثون، وكتب عن كثير منها الكاتبون، على الرغم من كثرة الكتب والدراسات المؤلفة حول حياته بقيت بعض الجهات الهامة غير مجلوة أمام الدارسين،لم تنكشف بعد، ومن هذه الجوانب صفة جمعه في اعتدال،وهي التي أحلته مكانًا ساميًا بين أعلام المفكرين وجهابذة المصلحين.
وقد مرت على وفاته ما يقارب عشرين سنة إلا أن الأمة المسلمة ما نسيت – ولا تسطيع أن تنسى- ما لحقها من الحزن والكمد والخسارة الفادحة بسبب وفاته، والحق أنها اليوم لفي أشد حاجة إلى فكره المتسم بالوسطية ومنهجه المتوازن أكثر من ذي قبل.
ومما يدل على اتزانه الفكري والوسطية الجامعة أنه نهل من جميع مناهل عصره الفكرية والعلمية والدعوية، وورد كل مورد عذب دون التعصب لطبقة دون طبقة، وجماعة دون جماعة، ولم يحرم على نفسه فكرة أو نظرية كشجرة ممنوعة، بل درسها بإتقان، وخبرها في محك النقد المتزن والتمحيص العادل، وغربلها بغربال الإسلام، وقبل ما طاب منها، وابتعد مما عافها، وحسبها ضارة للأمة المسلمة.
وكان من ميزاته أنه لم يقدم إلى الأمة إلا ما يزيدها جلاء وبصيرة، ويمدها في حياتها وقوتها، وكان دائم العمل على مقتضى المثل السائر: “الحكمة ضالة المؤمن حيث ما وجدها فهو أحق بها”.
فقد نشأ العلامة الندوي وترعرع في بيت علم ودين، وكانت أمُّه تضارع الرابعة البصرية في ورعها وعبادتها، وقد شبَّ بين رجال يجمعون بين الأصالة والمعاصرة، فقد كان أخوه الأكبر الذي اعتنى بتربية العلامة الندوي تربية علمية دينية، خير مثال للجمع بين القديم الصالح والجديد النافع، تخرَّج العلامة الندوي في جامعة ندوة العلماء، فسافر إلى مدينة لاهور وديوبند، واستقى من منهل المفسر الشيخ أحمد علي اللاهوري، والشيخ حسين أحمد المدني، واستفاد من المفكر الإسلامي السيد أبي الأعلى المودودي ورافقه مدة وجيزة، كما استفاد من الداعية الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي، والعالم الرباني الشيخ عبد القادر الرايفوري، وأما الأخيران فقد تركا أثرًا واضحًا ملموسًا في حياته، وكان يعجب العلامة الندوي شعرُ الشاعر الإسلامي محمد إقبال وتأثَّر به كثيرًا.
فقد أعد للفكر والدعوة باقة أزهارجميلة شذية تختلف ألوانها ورائحتها،ولكنه جمعها فأحسن جمعها، ورتبها فأجاد في ترتيبها، وأعطى كلا منها نصيبها الموفور، وكل ذلك في اعتدال وتوازن، وجامعية وشمول بحيث تنجذب إليها القلوب، وتهواها النفوس، وتلذ السمع والبصر.
وقد مهَّد له أبوه العلامة الشريف عبد الحي الحسني (صاحب نزهة الخواطر) أرضًا طيبة، وسقت تلك الأرض أمُّه العفيفة الطاهرة بدعائها إلى ربها وتضرُّعها إليه، ثم قامت برعايتها وتربيتها تربية دينية مستقيمة، ثم رسم اعتدال أخيه الأكبر وجمعه للعلوم الدينية والعلوم الحديثة، واطلاعه الواسع على المناهج القديمة والجديدة أثرا ملموسا واضحا في فكره وعقله، ثم ربَّاه أساتذتُه الأجلة وجهابذة العلم والفن في رعايتهم الخاصة، ومنهم من يعد من مشايخ العصرأمثال المفسر العظيم أحمد علي اللاهوري، والشيخ محمد إلياس أحمد الكاندهلوي، والشيخ عبد القادر الرايفوري، و المحدث الكبير الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، ولمجالسهم العلمية والروحية طابع عظيم في فكره وسلوكه،كما اتصل الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي بكبار أعلام الفكر الاسلامي على المستوى العالمي،فاتسعت آفاق جديدة وانفتحت له طرق متعددة للفكر والتدبر، ثم بعكوفه على مطالعة الكتب والتدبر فيها شقّ لنفسه وللأمة الإسلامية طريقا وسطا مشرقا، يستضيئ به من بعده كل طالب حق.
وقد جمع العلامة الندوي بين العقل والقلب جمعًا عادلا متزِّنًا يندر نظيره في عصره، وذلك لأن أصحاب الفكر عامة لا يلقون بالاً إلى إصلاح القلب، وأما من كان همّه إصلاح القلوب وتزكية النفوس فلا يلتفتون إلى هذا الجانب المهم ألا وهي الدنيا وما يتعلق بشئونها، وقد ألقى الشيخ الفقيه المفتي محمد تقي العثماني ضوءًا كاشفًا على ميزته تلك الخاصة حيث قال:
“ربما يعتني الرجل بجانب إصلاح القلب وتزكية الباطن وهو جانب مهم لا ريب فيه، ويعرفه الناس باسم التصوف والسلوك، فإنه يعتزل عن الناس، ويعتكف في زاوية من الزوايا، ويشتغل بإصلاح قلوب من يتصل به، لكن أثر جهوده الاصلاحية والتربوية محدود في نطاقه محصور بين مسترشديه، وأما الشيخ أبو الحسن علي الحسنى الندوي فكان إمام طريقة التصوف والسلوك، وكان له أن يشغل نفسه بعمل التزكية وإصلاح الباطن، ويصرف عما يعانيه العالم الإسلامي من المشاكل والتحديات؛ ولكن أبته همتُّه العالية، ولم يرض به؛ لأنه يحمل في قلبه هموم الأمة، يتحرق لما أصابها، ويتألم بآلامها، وكان دائم الفكرة فيما ينقذ الأمة من المآزق التي وقعت فيها، ويأخذ بيدها إلى شاطئ النجاح والفلاح،ومما يمتاز به العلامة الندوي أنه يملأ إهابه حب الأمة الذي يدفعه إلى طلب حلول ناجعة لقضاياها الاجتماعية المعاصرة، معرضا عنايته عن شواغل التصوف السائد،لأن مجال عمله كان أوسع منه بكثير.
ومن أهم ما يمتاز به العلامة الندوي أنه لم يتخذ الوسائل غاية؛ بل اعتبر الوسيلة وسيلة، والغاية غاية، وكان يرى ذلك همزة وصل بين مختلف طبقات الأمة، كما يعتقد أن الغاية لكل طبقة من طبقات الأمة واحدة، وهدفها واحد، وهو خدمة الدين، وإعلاء كلمة الله في الأرض، والحصول على رضاه، ولتحقيق هذه الأهداف وسائل متعددة وطرق متنوعة، لا يجوز أن يؤكد على طريقة دون طريقة، لأن ذلك يؤدي إلى تفريق في صفوف الأمة”.