الأخلاق هي الحلقة المفقودة في المجتمع
21 أغسطس, 2025أمراض المجتمع وعلاجها(13)
21 أغسطس, 2025اسمعي يا مصر (1)
العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي
أحييك يا مصر بتحية الإسلام! وأحيي فيك الزعامة للعالم العربي، الزعامة التي كانت عن جدارة واستحقاق، لا عن احتقار واغتصاب، وإنك تحلين اليوم في العالم العربي محلّ السمع والبصر، ومحلّ العقل والفكر، رضي به الناس أم لم يرضوا، ولكن الواقع لا ينكر.
أحيي فيك يا مصر نفاق سوق العلم! ورواج بضاعة الأدب، وتقدير رجال العلم والفن، فقد أنجبتهم، واحتضنتهم، ودافعت عنهم، وحدبت عليهم، فهم أبناؤك البررة، وأنت الأم الحنون.
أحيي فيك الأزهر الشريف؛ الذي كان ولا يزال المنهل المورود في الدين، والعلم للعالم الإسلامي، والذي لا يضارعه، ولا يزاحمه في تقدم السن، وطول العمر، وامتداد الظل وكثرة الإنتاج معهد، أو جامعة على وجه الأرض.
أحيي فيك المكتبة العربية التي فاضت، وامتدت كالنيل، وأصدرت كتباً ومطبوعات عربية لو وضع بعضها فوق بعض لكانت مثل الأهرام، أو أرفع.
أحيي فيك غيرتك على اللغة العربية وجهادك في إحيائها، ونشرها، ورفع شأنها، وتوسيعها، حتى أصبحت بجهود أدبائك وكتابك، وبفضل الصحافة المصرية، والحياة السياسية، وبفضل حركة التأليف والترجمة والنشر، وبفضل المجمع اللغوي؛ لغة راقية، عصرية، علمية، سياسية، فنية، لا تقل في غزارة مادتها وقابليتها لتعلم العلوم العصرية والطبيعية والرياضية عن أية لغة من لغات الغرب.
أحيي فيك عدداً مشرفاً من الأدباء والكتاب، فيهم الكاتب المبدع، والمترسل القدير، والأديب الفنان، والباحث الناقد، والعالم الضليع، والمؤرخ الأمين، والفيلسوف الحكيم، والمحدث اللبق، والروائي المصور، والمتهكم اللاذع، والمضحك المطرب والمصلح المنتقد، والشاعر المطبوع، والسياسي المناقش، والصحافي البارع، إذا كتب أحدهم في موضوع ردد العالم العربي صداه، وافتخر المتأدبون بتقليد أسلوبه والنسج على منواله، واحتجوا به كما يحتج بشعر القدماء.
أحيي فيك يا مصر! هذا وغير هذا، ولكن لي معك اليوم شأن آخر، إن لي معك كلاماً أرجو أن تلقي إليه سمعك ويشهد به قلبك فأنا ضيف قد نزل بك، ومن حسن الوفادة وتمام الضيافة الاستماع إلى كلام الضيف والإقبال عليه بالسمع والقلب.
إن مسؤوليتك يا مصر! أوسع وأعظم من تأدية رسالة الأدب وخدمة لغة العرب، وما تجودين على الأقطار العربية الشقيقة برشحات الثقافة الأوربية، وفتات المدنية الغربية، إنك بين آسيا وأوربا، فأنت ملتقى الثقافتين، ومجمع البحرين، إنك وسط بين مهد الإسلام ومشرق نوره؛ وبين مولد الحضارة الغربية ومبعث العلوم العصرية، فعليك مسؤولية القارتين، وعندك رسالة الثقافتين.
فأما مسؤولية آسيا والأقطار العربية فلا تخرجين منها يا مصر! حتى تكوني قنطرة تعبر عليها إلى البلاد العربية تجارب أوربا، وعلومها، ونشاطها، وكدحها في الحياة، وجهادها للبقاء، هنالك تقومين برسالتك ووظيفتك لهذه البلاد العزيزة، التي ترتبطين بها برابطة دينية، وروحية، وثقافية، وسياسية.
وأمامسؤولية أوربا فلا تخرجين منها حتى تبلغي رسالة الجزيرة العربية ـ وهي الإسلام الذي احتضنته من زمان ـ إلى أوربا، وحل المشاكل التي أعيت كبار المفكرين، وأتعبت عظماء المشرعين! وبذلك تؤدين واجبك المقدس نحو هذه القارة الأوربية التي استوردت منها شيئاً كثيراً من العلم والمصنوعات، والمنتجات، ونظمت عليها مدنيتك، وحياتك تنظيماً جديداً، وتحسنين إليها أكثر مما أحسنت إليك وتصدرين إليها أفضل مما صدرت إليك.
إنك يا مصر! قد بنيت القناطر الخيرية، فانتظم الري، وازدهرت الزراعة، وأخصبت البلاد؛ وأريد أن تبني قنطرة خيرية أخرى هي أكبر القناطر في العالم وأنفعها، تصل بين بحرين لم يزالا منفصلين، وبين حضارتين لم تزالا متنافستين، وبانفصالهما وتنافسهما، شقي العصر الجديد، فلو أنك وصلت بينهما، وكنت قنطرة تتبادل بها القارتان خيراتهما، ومحاسنهما؛ وفرت على الإنسانية جهوداً وأوقاتاً كثيرة، وصنتها من الضياع، كما أن قناطرك الخيرية وفرت على مصر مياهاً كثيرة ونظمت أمور الري.
لقد كان حفر قناة السويس أكبر حادث في التاريخ العصري، غير مجرى التاريخ، وأحدثت انقلاباً في السياسة، والتجارة، ولكن من يستطيع أن ينكر أن شقاء الأمم الشرقية كان أعظم وأعظم من سعادتها، وأنها لم تجن من قناة السويس إلا عبودية واستعماراً، والعالم الآن في حاجة إلى قناة أخرى، قناة التعارف الصحيح، والتبادل المتوازن، وإليك وحدك يا مصر! القيام بهذه المبرة العظيمة؛ لمكانك الجغرافي، وأهميتك السياسية وثروتك الثقافية، ومركزك الروحي، وتعلمين أن دولة لا تتزن ميزانيتها، ولاتتحسن أحوالها الاقتصادية، إلا إذا وجد توازن بين حركة التصدير والتوريد، وكان تصديرها أكثر من توريدها، ولكننا في الشرق نورد أكثر مما نصدر، وكانت قناة السويس أكبر مطية من مطايا هذا التوريد، فلا نريد قنطرة أو قناة تكون معبرة البضائع الأجنبية من أفكار، وآراء، وفلسفات، وأخلاق إلى أعماق الشرق وأحشائه، بل نريد قناة تساوي بين التوريد والتصديد، وتصدرأفضل ما عند الشرق الإسلامي من رسالة وعقيدة، وخلق، وعلم، وتورد أحسن ما عند الغرب من منتجات، ومصنوعات، وتجارب، واكشتافات، ومرافق الحياة، فكوني يا مصر! تلك القناة الأمينة العادلة؛ التي لا تسمح بالمرور إلا للصالح الفاضل.
إن لك يا مصر يدَين، فخذي من الغرب ما فاق فيه من علم وتجربة، فالحكمة ضالة المؤمن، ومدّي إليه يداً أخرى، يد المساعدة والكرم، وجودي عليه بما أنعم الله عليك من نعمة الإيمان وشرف الإسلام، فذلك الذي لا يملكه الغرب، ولا يستغني فيه عنك، وقد انتهى به إفلاسه فيه إلى ما ترين من فوضى وانحلال، فتصدقي عليه بهذا الإيمان ورسالة الروح، ولا تنسي أبداً أن اليد العليا خير من اليد السفلى.
كوني يا مصر رسول الإسلام إلى الغرب! واحملي إليه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، تلك الرسالة التي حملها العرب إلى الأمة الرومية، والأمة الفارسية، فأنقذتهما من مخالب الموت وأفاضت عليهما ثوباً فشيباً من الحياة، ولوناً جديداً من النشاط، وليس الغرب أقل حاجة إلى هذه الرسالة، وهو في دور التفكك وتنازع الموت والحياة من الأمة الرومية والفارسية إليها، وقديماً اختار الملوك وأصحاب الرسالة السماوية رسلاً من عشيرتهم والأقربين إليهم، ولك من إبراهيم وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم رحم ماسة، وقرابة خاصة ليست لقطر من الأقطار الإسلامية بعد الجزيرة العربية. (يتبع)