وفي العتاب حياة بين أقوام

طالما استعبد الإنسان إحسان
28 يوليو, 2025
طالما استعبد الإنسان إحسان
28 يوليو, 2025

وفي العتاب حياة بين أقوام

محمد خالد الباندوي الندوي

أخي العزيز!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إن المرأ في حياته – أيها الأخ – يتقلب في حالتين: اليسر والعسر، ويتردد بين أمرين: الفرح والشدة، فأحيانا يتمتع بما يسره من النعم التي تنعش روحه ويطربه، وأخرى يقاسي من الشدائد ما يكدر عيشه، ويذهب هناءه، فإنما الحياة الإنسانية جماع الأفراح والأتراح، وملاك الهموم والمسرات، فكلاهما يصاحب الإنسان في حله وترحاله، ويرافقه في وهاده وأنجاده، وهذا ما أشارت إليه الهداية القرآنية: “إن مع العسرا يسرا، إن مع العسر يسرا”.

فلا تخلو حياة البشر – أيها الأخ – من المواقف المتباينة: المواقف التي تنعم وتغدق عليه الحسنات، والمواقف التي تجرح المشاعر، أو تُسيء إلى الكرامات عن قصد أو غير قصد، فعلى الإنسان أن يعرف موقفه من كلتا الحالتين، وخاصة في حاله التي أسيئ إليه أو جرحت كرامته، وأظن أن ليس للإنسان في تلك الحالة إلا خياران: إما أن يصمت ويكتم ما في صدره، فيتحول الجرح إلى حقد وكراهية، وإما أن يُصارح من أساء إليه بكلمة صادقة وعتاب ناصح بنية استعادة المودة ووأد الخلاف في مهده، ليزول ما في النفس، وتصفو القلوب.

لأن العتاب يفتح باب الصفاء، ويُخرج ما في الصدور، ويمنع الحقد والكراهية من التراكم، ويعيد العلاقات إلى مسارها الصحيح. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا ينبغي للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث”.

ويحسن له في مثل تلك الحالة أن يعطيه نصيبًا من العتاب الصادق؛ لأن الهجران يقطع الوصل، والعتاب يُعيده.

ولعلك تعرف – يا أخي – الأحنف بن قيس الذي كان من حكماء العرب المشهورين بالحلم وضبط النفس، كان معروفًا بين الناس أنه لا يغضب بسهولة، وإذا غضب ملك نفسه فلا يندفع إلى الانتقام أو القطيعة.

ذات يوم جلس الأحنف مع مجموعة من الناس، فبدأوا يتكلمون ويشكون من أمور حياتهم، لكن الأحنف ظل ساكتًا لا يشاركهم الكلام. فقال له أحدهم: “يا أبا بحر، مالك لا تتكلم؟”، فأجاب الأحنف: “إني أخشى إن تكلمت أن أندم، وإن سكتُّ أن أسلم”. أي أنه اختار الصمت بدل كلام يثير الفتنة أو يجرح أحدًا”.

وفي موقف آخر، رأى الأحنف من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقفًا لم يعجبه، فذهب إليه مباشرة وقال له رأيه بصراحة وأدب، حتى يزيل ما في نفسه. فاستجاب له عمر وشكره على صراحته، فزال الخلاف قبل أن يتحول إلى عداوة.

اجعل العتاب المخلص – يا أخي – وسيلتك لحفظ الصداقة والأخوة، لكن ليكن عتابك برفق وأدب، بعيدًا عن الغلظة واللوم الجارح. فالهدف ليس الانتصار للنفس، بل استعادة المودة، ووأد الخلاف في مهده.

وتذكّر – دائما – العتاب الصادق – لا العتاب الحاقد – يجلب الصفاء، أما الصمت المليء بالحقد فيولد القطيعة والعداوة. فلنكن جميعًا ممن يبنون الجسور لا ممن يهدمونها، وممن يختارون العتاب النبيل بدل كتمان الغضب.