الشاه معين الدين أحمد الندوي: حياته وأعماله
26 يوليو, 2021الصامدون في وجه الاستعمار (5)
18 أغسطس, 2021شعائر الله تعالى وتعظيمها (8)
فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي
حبّ الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم:
كانت حياة الصحابة -رضي الله عنهم- نموذجًا حيًا صادقًا لهذا الحب النبوي، والعشق النبوي، ويتجلى هذا الحب المثالي في أروع مظاهره وأصدقها في سيرهم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليهم من نفوسهم وأولادهم وآبائهم، ويؤثرونه على أنفسهم، ويفدونه بآبائهم وأمهاتهم، وقد تفانوا في الفداء والولاء لرسولهم، وقدموا مثلا أعلى لحبِّهم لرسولهم، بعملهم وقولهم،وخلقهم وسلوكهم، وما أحبوا أن يصيبه أدنى أذى،وهم جالسون بين أهاليهم، فلما جيئ بخبيب بن عدي رضي الله عنه ليُقتل، سأله أحد الناس: ” أتحب أن محمدًا مكانك”؟ فقال: لا والله العظيم، ما أحبّ أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمها”.(السيرة النبوية لابن كثير:3/131)
ويوم غزوة أحد جالد طلحة بن عبيد الله المشركين الذين قصدوا الرسول صلى الله عليه وسلم،يريدون ما يأباه، وترس عليه بيده؛ يقى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فأصيبت أنامله، وشلّت يده، وقال: بأبي أنت وأمّي! لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحرى دون نحرك”. (صحيح البخاري، كتاب المغازي، رقم: 4064)
وفي الواقع لقد بلغ الصحابة رضي الله عنهم الغاية في حبهم وولائهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم، وقدموا مثلاً أعلى لهذا الحبّ الغامر، وقد طولب سائر أفراد الأمة أن يحبوا رسولهم مثل حب الصحابة الذي فاق الحسبان، فيكون الرسول أحب إليهم من نفوسهم وأموالهم وأولادهم وآبائهم وأمهاتهم ونسائهم،وإن حبّ الرسول يستلزم التأسي بأسوته الحسنة، والاستنان بسنته، والعمل بتعاليمه، وبقدر ازدياد الحب يزداد الإنسان المحب عملاً وحباً لكل ما يتصل بمحبوبه.
اقتضاء الإيمان الكامل:
إن كمال الإيمان أن يحب المؤمن رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه وولده والناس أجمعين، فيجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه، ويستعرض حياته، وينظر كم يحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يقدر هذا الحبّ بالقول وحسب؛ بل يقدر بأن يؤثر رسوله على كل شيء، مهما كلَّف ذلك، وفي أغلب الأحيان يحول حبّ الدنيا ومتاعها وحبّ الأولاد والأهل والمال دون العمل بما يقتضيه الدين، ولذلك منع الله تعالى من ذلك وقال: “واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وإن الله عنده أجر عظيم” [الأنفال:28].
والفتنة في اللغة العربية ما يصرف الرجل عن الطريق السوي بإيقاعه فيما تهواه نفسه، أي أن يرتكب الرجل عملاً خاطئاً طوعاً ورغبة، ويبلغ في حب شيء مبلغاً يوقعه في الغواية والضلال.
فإن أحبَّ مؤمنٌ رسولَه حبًا صادقًا -كما طولب منه بأنه لا يؤمن أحدهم حتى يكون الرسول أحب إليه من كل شيء- فإنه مع هذا الحب الصادق العميق لا يعصي رسوله، مهما كانت المغريات والمطالب المادية، لأن المحب لا يخالف أمر محبوبه في أي أمر، فإن كمال الإيمان والعمل بالشريعة أساسهما على الحب الصادق الصحيح للرسول صلى الله عليه وسلم، وإيثاره على كل شيء.
آداب النبي:
لقد بيّن القرآن الكريم بوضوح -مع حب الرسول- آدابًا يخرج المسلم من الإيمان لعدم فهمها ومراعاتها، وهو لا يشعر بذلك، فقد ورد في سورة الحجرات أن يعلموا مقام النبي ومكانته، والله يعصمه ويتعهده برعايته ويكلؤه، فلا يصدر منه ما يخالف رضا ربّه وأمره، لأنه قدوة مهداة من الله تعالى، فعلى المؤمنين أن يعتبروا أقوال نبيهم وتعاليمه وأعماله صادرة بأمر الله تعالى، ويطيعوه فيما يأمرهم أو ينهاهم عنه، وذلك أمر إلهي يجب امتثاله، ولا يجوز الإعراض عنه أو تركه.
وجاء في سورة الحجرات بشأن آداب النبي صلى الله عليه وسلم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [الحجرات:1].
يشاهد في جوّ العطف والحبّ والمودة عامة أن الذين يعيشون فيه يقصرون في الاحترام الذي لابدّ منه، مثلاً نشاهد في البيت أن الولد لا يحترم أباه ما يستحقه لكثرة الاختلاط والاحتكاك كل وقت، وإن كثرة اللقاء والاختلاط يسببان قلة الأدب والاحترام، كان الصحابة رضي الله عنهم يتعايشون مع النبي ويصاحبونه كل وقت، فكان من الممكن أن يقع منهم تقصير في أداء وظيفة الحبّ والاحترام والتعظيم، وقد أخطأ بعضهم في بعض المناسبات، ولذلك أمر الله في كتابه الخالد القرآن الكريم المؤمنين بأن لا يقدموا بين يدي الرسول ولا يرفعوا أصواتهم عنده، ويتقوا الله، والله سميع عليم، وأما الأمر بالاتقاء فإنه جاء لئلا يكون تقصيرهم في هذا الجانب سببًا لغضب الله وعقابه، لأن الله لا يحب أن يتدخل أحد أو يناظر رسوله أو يتقدم أمامه أو يرفع صوته بين يديه.
خلق النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان شفوقاً رحيماً، لا يجزي بالسيئة من يسئ إليه أو ينتقص منه، فلا يقول له شيئًا، بل يحسن إليه، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى، فينتقم لله بها”. [صحيح مسلم، كتاب الأدب، باب في التجاوز في الأمر: 4787]
ومن خلقه صلى الله عليه وسلم أنه كان عندما يدعو الناس للمأدبة في منزله فجاؤوا قبل الموعد وتجاذبوا أطراف الحديث، أو جعلوا يتحدثون فيما بينهم بعد الطعام مما يؤذيه أو أهل بيته، لا يقول شيئا؛ بل يتحمل ذلك برحابة صدر وحلم، فجاء في القرآن الكريم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ” [الأحزاب:53].
وعلى كل حال، فأكد الله تعالى في مواضع مختلفة من كتابه المجبد على احترام النبي وتعظيمه، ذاك أن النبي ليس بامرئ عام، إنما اصطفاه الله وقرّبه إليه واختصه لنفسه، وبذلك حصلت له رعاية خاصة من عند ربّه، فأصبح من عباده المقربين والمصطفين الأخيار، فإذا أساء أحد إليه يرتكب سيئة، ويكون عمله هذا غير مقبول عند الله، بل يغضب على ذلك.
منع رفع الصوت:
ورد في الآية الثانية من سورة الحجرات: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ” [الحجرات:2].
خوطب المؤمنون في هذه الآية بأن يراعوا آداب النبي ويخفضوا أصواتهم ولا يرفعوها على صوت النبي، ولا يبلغوا حدّ الجهر عند مخاطبته كما يجهر بعضهم في الحديث مع البعض، ولا يخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضهم بعضاً فيقولوا: يا محمد، ولكن قولوا يا نبي الله ويا رسول الله تعظيماً لقدره ومراعاة للأدب والاحترام، خشية أن تبطل أعمالهم من حيث لا يشعرون ولا يدرون، لأن في رفع الصوت والجهر بالكلام في حضرته -صلى الله عليه وسلم- استحفافًا قد يؤدي إلى الكفر المحبط للأعمال، فيظهر في الآخرة أن الحسنات والأعمال الصالحة قد حبطت ببعض الأخطاء والسيئات التي ارتكبوها وهم لا يشعرون.
أمر التقوى:
“إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ” [الحجرات:3].
ذكر في هذه الآية الذين يحتاطون في الحديث مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم يراعون الأدب والاحترام غاية المراعاة في الكلام مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم لا يتكلمون مع رسولهم إلا بصوت خافت للغاية يصعب سماعه في بعض الأحيان، ومن المعلوم والمشهور أن الصحابة تغشاهم الطمأنينة والسكينة والإنصات والاستماع إلى ما يقول الرسول بجمعية الخاطر وحضور القلب والوعي، يقول أسامة بن زيد رضي الله عنه عن حال الصحابة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير” (شعب الإيمان للبيهقي، باب في حب النبي صلى الله عليه وسلم، فصل في خلق الرسول صلى الله عليه وسلم: 143)
ومن خلق الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتقون في الحديث في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فما يقطعون حديثه، ولا يسألونه من غير حاجة، وقد أمروا بأن لا يكثروا من السؤال عندما يتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يستفسروا، ويكتفوا بما يقول، ولا يلحوا عليه إلحاحاً في السؤال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ” [المائدة:101].
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال، فنهى عن ثلاث: “قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال” (مسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة: 4583)
وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم قصة بني إسرائيل التي تتحدث عن الخسارة التي تسببها كثرة السؤال، فلما أمر بنو إسرائيل بذبح البقرة، سألوا موسى عليه السلام: ما هو نوع البقرة، وما هو لونها، وما هو جنسها؟ وما هو سنها؟ ففرض الله عليهم قيودًا وشرائط عويصة، فتعبوا وعانوا كثيرًا في البحث عن البقرة ذات تلك الصفات.
ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته عن كثرة السؤال من غير حاجة، لأن كثرة السؤال تؤدي إلى الضيق والعسر، وقد ربّى الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته تربة قويمة، وعوّدهم على الاستفادة بما يأمر به الله بشكل عام، وأن يعملوا به حسب استطاعتهم، ويتجنبوا فيه عن قيل وقال، وقد قال الله تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: “مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا” [الحشر:7].