شعر وحكمة
14 سبتمبر, 2020محمد الفاتح لم يفتح القسطنطينية فقط … ولكنه غيّر تاريخ أوربا أيضًا (2)
14 سبتمبر, 2020التكلّف في الكتابة
التصنّع في الكتابة والتكلّف في التّعبير من الأمورِ المذمومة أدبيّا؛ إذ يؤدّي إلى غُموضِ المعنى وصعُوبةِ الفَهْم عند المتلقّى، بينَما السّجيّة والفطرة، ووضُوحُ المعنى وسهولته، والاعتدال والانسجام في استخدام المحسنّات والأمثال، من أهمّ مميّزات الكتابة الجميلة.
والكاتبُ المتمرّسُ ينتقي الألفاظَ والكلمات المناسبة للتّعبيرعما يدورُ في فكره ويجيشُ به صدره، برويّة وسلاسةٍ ودون عناءٍ أوتلفيقٍ للمعاني، ويدركُ جيدا أنّ أحسنَ الكلمات أقربها إلى الطبع وأنفذها إلى القلب وأوضحها للغرض وأدلّها على المعنى، أمّا الكاتبُ الموهوم أوالمبتدئ فيثقّل كاهل الكتابة بأغلال السّجع الزائد والكلمات الغريبة، والألفاظ الصعبة، ومحاكاة المقامات، بحجّة أنّها نوعٌ من التّنميق والتحسين، وجودة التعبير والتحبير، بينما هي في الحقيقة أدواتٌ لتقييد حرّيته في الكتابة وإعاقته من الانطلاقة.
إن جمال الكتابة الحقيقي يكْمُن في تركها على طبيعتها وإطلاقها، وخلوّها عن الغموض والتعقيد، وهناك فرقٌ كبيرٌ بين الكتابة التي لايقيّد حريتها شيئ، و التي تجري على قلم صاحبها مَجْرَى الْمَاءِ في النّهر، وبين الكتابة المثخّنة بجراحات التكلّف؛ إذ لَيسَت النائِحةُ الثكلى كالنائحةِ المُستأجَرة، وليس الورْدُ الطبيعي مثل ورود (الواتساب) التي لارائحة لها ولاطعم، يقول المتنبي:
إِذا اشتَبَهَت دُموعٌ في خُدودٍ
تَبَيَّنَ مَن بَكى مِمَّن تَباكى
والتكلف في الكتابة ظاهرة قديمة اشتكى منها كبار الكتّاب، فقد ذكر الجاحظ (تـ 255هـ) أنه رأى بعض العلماء يديرون فى كتبهم كلاماً غريباً لو خُوطب به الأصمعى لجَهل بعضه. وقال: “وهذا ليسَ من أخلاق الكتّاب ولا من آدابهم” وأشار إلى نماذج لهذا الكلام وعقبها بقوله:”وليس في هذا الكلام شيئ من الدنيا إلا أنّه غريب”!!. (البيان والتبيين، الجاحظ، ت، عبدالسلام هارون: 1/378-379)
يفهم من كلام الجاحظ أن التكلّف ينافي أدب الكتابة وأخلاق الكتّاب، حيث إن هدفهم الأساسي توصيل الرسالة بوضوح ويُسر، وليس إبراز العضلات الأدبية وتعجيز القارئ.
ومن التكلّف في الكتابة الحشو، وتكرار الأوصاف بلاضرورة، واستخدام الحلى اللفظية دون الحاجة الفنية، أمّا لو اشتملت بالمحسّنات البديعية مواكبة للمعنى، وموافقة له، وجاء بها الكاتب عن طبع وسجيّة ومن غير تكلّف أوعناء، فذلك بدون شكّ مما يضيفُ اللمسة الجمالية والمتعة إلى الكتابة، قال السكاكي (تـ555هـ) “وأصلُ الحُسن في جميع ذلك (أي في أنواع البديع وصوره المختلفة) أن تكون الألفاظُ توابعَ للمعاني، لا أن تكونَ المعاني لهَا توابع، أعني أن لا تكون متكلَّفة”.(مفتاح العلوم، السكاكي، تعليق: نعيم زرزور، ص: 432)
ويتحدث أبو هلال العسكري (تــ بعد 395هـ) عن جمال الكلام وطلاوته، فيقول:
“الكلام- أيّدك الله- يَحْسُن بسَلاسَتِه، وسهولته، ونصاعته، وتخيُّر لفظه، وإصابة معناه، وجودة مَطَالعهِ، ولينِ مقاطعه، واستواءِ تقاسيمه، وتعادُلِ أطرافه، وتشابه أعْجَازِه بهَوَادِيه، وموافقة مآخيره لمبَادِيه، مع قِلّةِ ضروراته، بل عدمها أصلا… فإذا كان الكلام كذلك كان بالقبول حَقيقاً، وبالتحفظ خَليْقاً”.(كتاب الصناعتين، أبي هلال العسكري، ت، د .مفيد قميحة، ص: 49)
والكاتب مطالب بلزوم الاعتدال والتوسط في كلماته وألفاظه، ومن الاعتدال في الألفاظ أن تكون رشيقة واضحة، وأن يكون الكلام جزلا سهلا، و اضحا غير مبهم، “متوسطا بين الوحشي الغريب، والسوقي القريب، ومن الاعتدال: أن يبتعد عن التكلف؛ فلايبالغ في سجع، ولايقصد إلى التعمية، ولايأتي بالعبارات القلقة” .(الارتقاء بالكتابة، د. محمد إبراهيم الحمد، ص: 76)
واجتهد الإمام عبد القاهر الجرجاني (تـ 471هـ) في وضع ضوابط لتوظيف المحسّنات، ونعى على المتأخرين في زمانه المغالاة في أمر ها، وذمّ من جعل التحسين همّه ودأبه ونسي غرضه من الكلام وتناسى وظيفة التحسين “وربما طمس بكثرة ما يتكلّفه على المعنى وأفسده، كمن ثقّل العروس بأصناف الحلى حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها”.(أسرار البلاغة في علم البيان، الجرجاني، ت د. عبدالحميد هنداوي، ص: 16-17)
شمعة أخيرة:
أجود الكلام: السهل الممتنع؛ السهل: الذي يفهمه من قرأه أو سمعه، الممتنع: المتعذر على من رام أن يكتب أو يقول مثله.”وصف الفضلُ بن سهل، عمرو بن مسعدة فقال: هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أنّ كلّ أحدٍ يظنّ أنّه يكتبُ مثل كُتبه، فإذا رَامَها تعذّرتْ عليهِ”. (الارتقاء بالكتابة، ص: 78)
بقلم: د.سعد الله المحمدي، مملكة البحرين