حفلات التأبين على وفاة الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي
19 مايو, 2025الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (1)
20 مايو, 2025الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي في مصاف رجال التاريخ
بقلم: الدكتور محمد حسين خان الندوي (الدوحة بقطر)
ودّعت الأمة في 15 يناير 2025م علمًا من أعلام الفكر والدعوة والصحافة العربية الإسلامية في الهند، فقد صدمنا برحيلٍ مفاجيءٍ لفضيلة الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي، الأمين العام لندوة العلماء، في وقتٍ كانت الأمة الإسلامية الهندية عامةً، وندوة العلماء على وجه الخصوص في أشد حاجةٍ إلى خدماته العلمية والأدبية والصحافية والإدارية، فقد صنع الرجل التاريخ في فترةٍ قصيرةٍ، وأبهر بعد توليته المنصب الإداري في ندوة العلماء، كل من له صلة بهذا الصرح العلمي، بدوره الريادي، وحنكته ومهارته القيادية والإدارية في إدارة ندوة العلماء، وإن رحيله قد ترك فراغاً كبيرًا يصعب أن يسد في المستقبل القريب.
يندهش كل من يقرأ سيرته وإنجازاته العلمية والأدبية والفكرية والصحافية، فهو رجلٌ نموذجيٌ ينتمي إلى تلك الشخصيات العظيمة التي ترسم لها تاريخًا بكامله في الحياة والنجاح والعلم والعصامية، ولم تكن حياته حياة رغدٍ وسعادةٍ وسعةٍ ودعةٍ، بل كانت كلها كدًا وسعيًا وعزيمةً. وقصته قصة كفاحٍ وجهدٍ وكدٍ متواصلٍ مثيرةٍ للإعجاب لنيل المرام. ولم يكن مجرد عالمٍ أو أديبٍ أو صحافيٍ استطاع بعصاميته وعظاميته التي جمع بينهما أن يصنع لنفسه المجد، بل كان إنسانًا نادرَ الوجود، فكان يتميز إلى جانب مؤهلاته العلمية والأدبية والصحافية بكثير من المزايا الإنسانية الحسنة والصفاتٍ النبيلة، من أبرزها حسنُ الخلق، وكرم الطبيعة، ونقاء السريرة، ولين الخاطر، وحب الخير، والحلم عند الغضب، والتواضعٌ رغم علو شأنه، والصدق في القول والفعل، كما أنه كان على قدرٍ كبيرٍ من الصلاح والتقوى، مما جعله عزيزًا كريمًا يحبه كل من خالطه أو جالسه ولو لفترةٍ قليلةٍ. وكان ذو مروءةٍ وبذلٍ وسخاءٍ، يجود بالعطاء بما يملك يمينه على الضعفاء والمحتاجين، حتى أنه كان في طريقه لعمل الخير والجود والعطاء عندما لقي ربه في حادثٍ مروريٍ صدمت دراجتَه الهوائية سيارةٌ تقل بسرعة جنونية.
ولد الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي في 13 سبتمبر 1960م بمدينة رائ بريلي بولاية الهند الشمالية في أسرةٍ علميةٍ وأدبيةٍ ودينيةٍ عريقةٍ، مميزةٍ بالعلم والفكر والثقافة، والصلاح والتقوى وتزكية النفس، والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله. فهو ينحدر من سلالة المجاهد والداعية الإسلامي الكبير السيد أحمد الشهيد، ومن أجداده العلامة الشريف سماحة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي الذي يُعد عالمًا ربانيًا عبقريًا، وداعية عظيمًا ومفكرًا إسلاميًا معروفًا، وكاتبًا قديرًا، وأديبًا ذو أسلوبٍ خاصٍ له، وصاحب مؤلفاتٍ غزيرةٍ، وكان والده العلامة الشريف، والعالم الزاهد، والمفكر الإسلامي، والصحافي العربي الشهير، والكاتب القدير فضيلة الشيخ واضح رشيد الندوي من كبار رجال العلم والأدب والصحافة، ومن أساطين الأدب العربي في الهند. تربى جيلٌ كاملٌ من العلماء والأدباء الأفاضل على يده، واستقى آلاف من طلبة العلم والأدب من الهند وخارج الهند من منهل علمه وأدبه الراقي.
نشأ وترعرع الشيخ جعفر مسعود الحسني في هذه البئية العلمية والأدبية والجوء الثقافي والديني منذ نعومة أظفاره، حفظ القرآن الكريم، ثم التحق بدار العلوم لندوة العلماء حيث تلمذ على أساتذة كبار أمثال والده وعمه الأكبر، المربي الرشيد، والعالم الرباني، والأديب الألمعي، فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وعلى العلماء والأساتذة في رحاب ندوة العلماء. تخرج من كلية الشرعية وأصول الدين بدار العلوم لندوة العلماء ونال شهادة العالمية والفضيلة بدرجة امتياز، ثم التحق بجامعة لكناو ونال شهادة الماجستير في الأدب العربي، كما أنه تعلم وتدرب على أساتذة كبار من جامعة الملك سعود في الدورات التدريبية، وبالإضافة إلى دراساته المفتوحة، ومطالعاته الحرة، مما أذكت مواهبه العلمية ومؤهلاته الأدبية والفكرية والثقافية، وجعلته عالمًا فذًا، ومعلمًا ناجحًا، ومربيًا حكيمًا، وكاتبًا قديرًا، صحافيًا خبيرًا، ومفكرًا متنورًا ذو نظرةٍ صائبةٍ، وثقافةٍ عميقةٍ، ورؤيةٍ واسعةٍ.
بدأ حياته التدريسية كمدرس الأدب العربي والحديث النبوي الشريف في المدرسة العالية العرفانية التابعة لدار العلوم لندوة العلماء، وقد أمضى حقبة من الزمن يعلم ويدرب الطلبة، وكانت دروسه تمتاز بالشرح والبسط والإيضاح، وبعمقه العلمي والفكري، وروحانية خطابه الأدبي والديني، مما جعل الطلبة يُحنون شوقًا ويطيرون فرحًا لسماع دروسه، فينالون فيها مبتغاه، وتفسير كل معضلاتهم في الدرس والمطالعة. وانتقل منذ فترة إلى دار العلوم لندوة العلماء حيث انسلك إلى كادرها التدريسي والتعليمي، مما جعل الطلبة في ندوة العلماء منبسطين بمحاضراته ودروسه القيمة.
تولى عدة مناصب علمية وإدرارية، فقد تولى المسئولية الإدارية لندوة العلماء منذ أبريل عام 2023م، وذلك بعد وفاة فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، فكان أحسن إداريًا قام بانجازات قيمةٍ فريدةٍ، وأثبت حنكته وخبرته ومهارته الإدارية في فترةٍ وجيرةٍ. فقد قام بتطوير نظامها التدريسي والتدريبي والإداري، وبتحسين منهجها التعليمي بإدخال موادٍ تعليميةٍ جديدةٍ إلى مقرراتها الدراسية، لحرصه على تدعيم طلبة العلم علميًا وأدبيًا وفكريًا، مما جعل الطلبة يستفيدون بالعلوم والمعارف المطلوبة، ويتسلحون بوسائل تعليميةٍ وأدبية وفكريةٍ وصحافيةٍ تنويريةٍ تعينهم على استجابة متطلبات العصر وحاجات الزمان. هذا بالإضافة إلى توليته العضوية والمسئولية الإدارية للمجمع الإسلامي العلمي بلكناؤ، ورابطة الأدب الإسلامي العالمية لشبة القارة الهندية، وقد أدى جميع مسئولياته بأحسن وجه وأتم طريق.
بدأ حياته القلمية والصحفية بكتابة المقالات في صحيفة الرائد في أسلوب بسيطٍ سلسٍ، وسهلِ ممتنع، التي كانت تعكس غزارة علمه ومعارفه ومعرفته بالتاريخ والثقافة الأوربية والعالمية العصرية، وكان يعبر عن أفكاره بوضوح دون تكلف، مع محاولاتٍ ناجحةٍ لتضمين لمساتٍ إبداعيةٍ وابتكاريةٍ. وسرعان ما نضجت مقالاته، وامتازت بأسلوبٍ صحافيٍ فنيٍ بعناوين أدبيةٍ ودينيةٍ وتربوية وأخلاقيةٍ وتاريخيةٍ ومعرفية، وبموضوعات عصريةٍ، تعتمد على لغةٍ جميلةٍ وكلماتٍ رشيقةٍ وتعبيراتٍ أنيقةٍ، وأسلوبٍ صحفيٍ أدبيٍ فنيٍ جذابٍ، يمزج بين المعلومات والتحليل الدقيق، وبين عمق البحث العلمي ورشاقة القلم الأدبي، وبين العصرنة وروحانية الخطاب الديني، ويزوِّد القارئ بالمعرفة، ومتعة القراءة في آنٍ واحدٍ.
تم تعينه مديرًا للتحرير لصحيفة الرائد عام 2013م، فاتخذ أسلوب والده الكتابي نبراسًا له، وغاص في عمقه، واصطبغ بصبغته، حتى برز خلال فترةٍ وجيزةٍ بنفثات أقلامه، وبنات أفكاره في أوساط الكتاب والأدباء والصحافيين الإسلامين الهنود. وصدق من قال: “الولد سر أبيه” فقد حاول أن يحذو حذوه في الكتابة، كما يقول في مقدمة كتابه “أخي العزيز”:
“فلو لا هو، ولو لا طبيعته الحنونة، ولو لا أسلوبه الحكيم في التوجيه، ولو لا عنايته الفائقة بتربية تلاميذه ولولا قدرته المتميزة على الكتابة، وطريقته المنفردة في تصحيح الأخطاء، لما أمسكت بالقلم…”.
أثرى المكتبة العربية والأردية الإسلامية بالعديد من المؤلفات الغزيرة والكتب القيمة والترجمات بالإضافة إلى مقالات قيمةٍ نشرت في أعرف المجلات العربية والأردية، وجهوده الدعوية التي بذلها عبر خطاباته ومحاضراته ودروسه التربوية والإصلاحية التي تجمع بين الوعي بالواقع الراهن والفقه المعاصر العميق. وما زال صوته وموقفه وخطاباته في منابر الإيمان، ومنصات الملتقيات والمؤتمرات منارةً للاعتدال والوسطية والموضوعية، وكان يحترم كل المذاهب الفقهية والفكرية، بعيدًا عن كل أنواع من التطرف الديني والتعصب المذهبي والفكري. وكان داعيًا في خطاباته إلى فهم النصوص الدينية في سياق العصر دون تفريطٍ أو إفراطٍ، وساعيًا إلى تعزيز القيم الروحية والدينية، وحل القضايا المجتمعية المعاصرة من منظورٍ دينيٍ متنورٍ، وفهمٍ عصريٍ متطورٍ.
تغمد الله الفقيد برحمته وغفرانه، فكان فراقه في وقتٍ كنا في أشد حاجةٍ إليه، ففي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ. كان رحيله خسارةً كبيرةً للأمة الإسلامية الهندية، والمجتمع الندوي بأسره. ونحن محزونون ومكسورو الخاطر على فراقه، ولكننا في نفس الوقت ندعو المولى عز وجل أن يعوضنا به، متفائلين برحمته، مؤمنين بحكمته وقضاءه وقدره، فكلنا إليه راجعون.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته | يوما على آلة حدباء محمول |
رحل الفقيد بجسده، لكن سيرته الكريمة، ومآثره العلمية والأدبية الخالدة، ستظل كتابًا مفتوحًا يخلده لأبد الدهر، فليس في وسع الموت أن ينهي دور العباقر والعظماء الذين أخلصوا للعلم ولخدمة الأمة، وتركوا مآثر خالدةً تبقى مصدر إلهام…. للتعليم والتربية. إنك رحلت عنا بجسدك ولكنك لا تزال حيًا خالدًا في قلوبنا، وقلوب أحبائك وأصدقائك، وقلوبِ آلافٍ من تلاميذك الذين سهرتَ على تعليمهم وتربيتهم، وإرثك الثقافي والأدبي والديني سيظل يُضي الدرب للأجيال.
أخو العلم حي خالد بعد موته | وأوصاله تحت التراب رميم |