سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى

حاجتنا إلى بروتوكول لمواجهة خطاب الكراهية
4 أبريل, 2023
أيسرُ طريق للتخلُّص من القلق والحيرة
19 سبتمبر, 2023

سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى

محمد وثيق الندوي

فقدت الأمة الإسلامية يوم الخميس21/ رمضان المبارك 1444هـ المصادف 13/ أبريل 2023م علمًا من أعلامها الأفذاذ، وشخصية نادرة من شخصياتها الفريدة في مجالها العلمي والفكري والتعليمي والتربوي والأدبي، والتوجيهي والقيادي، ونجمًا من نجومها الساطعة في سماء العلم والأدب: سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الذي كان جبلاً من جبال الحلم والأناة، وبحرًا من بحور العلم والأدب والحكمة، وداعية من الدعاة إلى الحق والهدى، بالحكمة والموعظة الحسنة، وعمادًا من أعمدة صيانة الدين والشريعة، قد استفاد منه المسلمون في الهند، وفي شتى بقاع العالم، عن طريق اللقاء والمشافهة، وعن طريق الكتابة والصحافة، وعن طريق التدريس والتعليم، والتوجيه والتربية، وعن طريق الرسائل والمكاتبات، وعن طريق الخطب والمحاضرات، وعن طريق الجوالات والإيميلات، فقد عاش عمره المبارك (96 عامًا) للعلم والدين والدعوة؛ يعلِّم ويدرِّس، يكتب ويخطب، يوجِّه وينصح، ينبِّه ويرشد، يزكي ويصلح، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وكانت نشأته فريدة في بابها، فقد ولد في بيت علم وأدب، وخلق وورع، وخشوع وتواضع، وجهاد وكفاح، ونهل من مناهل العلم الصافية، وعلَّ من ينابيع الحكمة والفكرة السليمة والربانية الصافية، وأخذ من العالم الرباني الشيخ عبد القادر الرائيبوري، والمحدث الجليل الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، والمجاهد الكبير الشيخ حسين أحمد المدني، ونال رعاية خاصة من خاله الأكبر الدكتور عبد العلي الحسني الندوي، وتربي على خاله العظيم العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، واستفاد منه استفادة، واستقى منه وتشبع بخلقه، وعايش معه وصحبه في السفر والحضر فأصبح شبيهه خلقًا وخلقًا، وسيرة وسلوكًا، ونهجًا وفكرًا، فنهج منهجه وسلك مسلكه في الفكر والدعوة، واصطبغ بصبغته، فكان خير خلف لخير سلف في جميع مجالات الحياة، وكان خير ظهير ومؤيد لمربيه ومرشده في تحقيق الأهداف المنشودة التي توخاها شيخه ومرشده، وإنجاز الأعمال والمسئوليات التي نيطت به من توجيه الصحوة الإسلامية، وقيادة الحركة الإسلامية، وإدارة المؤسسات والمنظمات، وتوجيه العمل الإسلامي، وإعداد الجيل المؤمن الواعي، فله تلاميذ منتشرون في مختلف أنحاء العالم، يشغلون مناصب عالية في الجامعات والكليات، ومراكز البحث العلمي، ومجامع اللغة، ويلعبون دورًا بارزًا في مختلف مجالات الحياة.

كان سيدي وشيخي سماحة العلامة محمد الرابع الحسني الندوي على رأس الكتيبة المؤمنة التي جهَّزها سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله – كما كتب الأستاذ نذر الحفيظ الندوي رحمه الله في تقديمه لكتاب “إلى نظام عالمي جديد للأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي”–” لمواجهة الغزو الفكري، ورفع الراية المحمدية في بداية الخمسينات من القرن المنصرم، وكان في جنود هذه الكتيبة المؤمنة الأستاذ محمد الحسني، والأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي، والأستاذ الدكتور سعيد الأعظمي الندوي، فهؤلاء كانوا الساعد الأيمن؛ بل على الجبهة الأولى مع قائدهم ومربيهم في صد تيار الردة الفكرية والعقائدية والحضارية والثقافية في عصر كان الدفاع فيه عن الدين يعنى الإيثار والتضحية في معنى الكلمة، بل كان بمثابة الانتحار، ولكن ثبتت هذه الكتيبة المؤمنة على الجبهة التي عيَّنهم عليها قائدهم ومرشدهم، فكانوا مثل الجبال الراسيات في الاستقامة على سبيل الحق”، وقد طلبتهم الحكومة الهندية إلى دلهي حينما شكا إليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر تألمًا بما يوجهون إليه ونظامه المستبد من سهام النقد اللاذع بكتاباتهم القوية الجريئة المؤثرة في مجلة “البعث الإسلامي” وصحيفة “الرائد”، ” فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا في الصمود والثبات أمام معركة القومية العربية التي جاءت بحدها وحديدها تدعمها أقوى الحكومات وأشدها عنادًا وحقدًا على الدين وأهله، ولكن هذه الفتية المؤمنة قامت بردّ هذه الفتن على أعقابها، بل قضت عليها في عهدها وعقر دارها”.

وكان سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي نمطًا نادرًا فيما يقوم به، ويؤلف ويكتب، إنه يؤثر البحث الهادئ دون عجلة، ويضع الخطة المحكمة دون تسرُّع، فقد ترك بصمات واضحة على العقل الإسلامي المعاصر، لا يمحوها اختلاف الليل والنهار بما ألف من عشرات الكتب، وما دبج يراعه من مئات المقالات، وما ألقى من آلاف الدروس والخطب والمحاضرات، لقد عاش عمره الطويل يحارب القوى المعادية للإسلام، ويتصدى لتياراتها، ويعمل على هدم أوكارها وهتك أستارها ويكشف عملائها بكتاباته المؤثرة المقنعة باللغة العربية والأردية.

ففقدتُ بفقده كاتبًا قديرًا مطلعًا على الأخطار والتحديات، وقف في وجه الاستعمار الغربي في القرن المنصرم، وكشف عن حقيقته ودوافعه، وفي وجه الصهيونية الماكرة المستعمرة، وفي وجه التنصير الذي سعى ويسعى لسلخ المسلمين من عقيدتهم ليصبحوا عبيدًا للصليبية الغربية الحاقدة، وفي وجه القومية العربية والناصرية، وفي وجه الحضارة الغربية المادية، وعصبيتها العنصرية وإن لم ينكر ما فيها من عناصر إيجابية يمكن الاستفادة منها، كما وقف في وجه العلمانية اللادينية، فقد كان من رجال الفكر والقلم والدعوة والتعليم والتربية، ونذر حياته وقلمه في نصرة الفكر الإسلامي السليم وعرض تصور الإسلام الصحيح عن الحياة والإنسان والكون كما يدل عليه كتاباه: “العالم الإسلامي: قضايا وحلول” و”قيمة الأمة الإسلامية ومنجزاتها”.

وفقدتُ بفقده أديبًا أريبًا ومفكرًا إسلاميًا رزق بنباهة ساطعة في الدوائر العلمية والأدبية، وكان المثقفون يجمعون على سموق منزلته الفكرية والأدبية، ويعدونه رأسًا من رؤوس الفكر الإسلامي المعاصر، ورائدًا من رواد الأدب الإسلامي، وقد أوتي من حسن الاستنباط ودقة التعليل وبراعة التحليل ما جعل القارئ والسامع معجبين به، وخير دليل على ذوقه الأدبي السامي اختياراته الأدبية النثرية والشعرية، وكتبه، منها ” منثورات من أدب العرب” و”مختار الشعر العربي” و”الأدب العربي بين عرض ونقد”و” تاريخ الأدب العربي (العصر الإسلامي) “و” الأدب الإسلامي وصلته بالحياة” و”الأدب الإسلامي فكرته ومنهاجه”و”أضواء على الأدب الإسلامي” و” الغزل الأردي ومحاوره”.

وفقدتُ بفقده قائدًا حكيمًا، وموجهًا ذا تجربة واسعة طويلة، وإداريًّا محنَّكًا، وخبيرًا بخفايا الأمور، وبصيرًا بعواقبها، وصاحب فراسة مؤمنة، ورأي صائب، ونظرة ثاقبة، وبصيرة نافذة، قاد عددًا من الحركات والمنظمات الإسلامية بحكمة وجدارة، فقد قاد هيئة قانون الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند، وهي كبرى المنظمات الإسلامية في الهند، تمثل سائر الفئات والمذاهب الإسلامية ذات ميول مختلفة، فصانها من التفرُّق والتمزُّق بحكمة بالغة، كما قام بترشيد الصحوة الإسلامية، وتوجيه حركة الأدب الإسلامي والصحافة الإسلامية البناءة خير قيام، وأدار ندوة العلماء بجدارة ولباقة، فأحرزت برئاسته تقدُّمًا كبيرًا، وتوسَّع نطاقها.

وفقدتُ بفقده محبًا وصاحب ولاء صادق للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان يهتدي بهديه ويأتسي بأسوته في كل شأن، فكان صورة صادقة للهدي النبوي، كما كان له اطلاع واسع على السيرة النبوية بل كان شغوفًا بها أشد شغف، فقد عاش أكثر من 60 سنة في مطالعة السيرة النبوية وما ألف حولها من كتب، أو قدمت من دراسات وتحقيقات جديدة في السيرة النبوية، وتدريس مادة السيرة النبوية، فألف حول السيرة النبوية كتابًا قيمًا باسم” سراجًا منيرًا سيرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم”، نال قبولا عامًا.

عرفتُ سيدي وشيخي منذ بلغتُ سن الشعور؛ فعرفت فيه العقل الذكي، والقلب النقي، والخلق الرضي، عرفتُه فما عرفت فيه إلا الصدق في الإيمان، والسداد في القول والإخلاص في العمل، والرشد في الفكر، والطهارة في الخلق، والثبات في الدعوة، والمحبة للخير، والغيرة على الدين، والبغض للظلم.

عرفتُه؛ فعرفت رجلا يعيش للإسلام وللإسلام وحده، لا يشرك فيه شيئًا ولا يشرك به أحدًا، والإسلام لحمته وسداه، ومصبحه وممساه، ومبدأه ومنتهاه، عاش له خادمًا بما أوتي من قوة وصلاحية، قد تختلف معه في قضية أو أكثر، وقد تنقده في بعض ما وقف من مواقف، ولكنك لا تستطيع أن تشك في صدقه وإخلاصه وغيرته.

 وعرفتُه رجلاً سيلم الصدر، لا يحقد على أحد، ولا يضمر لأحد غلاً ولا شرًا، عفّ اللسان لا ينطق بكلمة فحش؛ لا جدًا ولا هزلاً، ولا يذكر أحدًا بسوء لا حضورًا ولا غيبة، سخي النفس لا يضنّ بجهد ولا مال في نصرة الحق، ونجدة الملهوفين والمحتاجين، حييًا يخجل من أي نكتة خارجة، فيحمر وجهه خجلاً من أي كلمة منكرة.

 وعرفتُه رباني الأخلاق والسلوك، فهو قوي المراقبة لربه، شديد المحاسبة لنفسه، طويل الوقوف بين يدي مولاه، ويطيل الركوع والسجود تلذذًا للمناجاة، وكان مربيًا بالفطرة والدراسة والخبرة، يحمل أبدًا روح الأبوة الحانية والإيجابية البانية والأستاذية الهادية، لا يدخر وسعًا ولا يبخل بجهد، ولابنفس، ولا مال في تربية تلامذته وإرشاد مسترشديه، وكان ذا ملكة نقدية تكتشف العوج بيسر، وتلحظ الخطر بسهولة، ولكنها تحاول العلاج، وتجتهد في التقويم.

و عرفتُه متسامحًا سهلاً هينًا لينًا يكره العنف والغلظة والفظاظة، ويدعو بالحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن، ويؤمن بالتفاهم والحوار مع الآخر أيًا كان خلافه، وكان رجلاً هادئًا حكيمًا يحمل الأمل في ساعة اليأس، ويبشر بالفجر في حلكة الليل، ولا ييأس من روح الله أبدًا، وكان متمسكًا بالحق لا يحيد عنه، ولا يبيعه بالباطل، بل كان مع تسامحه شديدًا على نفسه.

لقد عرفتُه عن كثب قبل الدراسة عليه، وعرفته خلال تلقي العلم منه، وعرفته بعد التخرُّج، عايشته وصحبته في السفر والحضر، وعملت معه كمساعد له، فوجدته إنسانًا رقيق القلب، قريب الدمعة، نقي السريرة، صافي الروح، حلو المعشر، كريم الخلق، باسم الثغر، موطأ الأكناف، عذب الحديث، سريع النكتة، بسيطا متواضعا هينا لينا، بعيدًا عن التكلف والتعقيد والتظاهر والادعاء، تسبق العبرة إلى عينيه، إذا سمع أو رأى موقفًا إنسانيًا، ويهتز خشوعًا إذا ذكر الله والدار الآخرة ولا يأنف أن يتعلم حتى من تلاميذه، يعترف لكل ذي موهبة بموهبته، لا يحسد ولا يحقد، فتواضع لله تعالى فرفع له ذكره، ووضع له محبوبية نادرة في الأرض كما يدل علي ذلك حضور حشود ضخمة حاشدة في جنازته، وانهيال رسائل التعازي، ووفود التعزية التي تتوافد إلى ندوة العلماء ومقره برائ بريلي من مختلف أنحاء البلد.

وكان سيدي وشيخي قمة في الشكر على النعماء، والصبر على البلاء، فقد شاهدته في السراء والضراء، فوجدته كالعهد بأهل الإيمان، فكان في السراء شاكرًا، وفي الضراء صابرًا، لا يجزع ولا يهلع، كما ورد في الحديث النبوي: “عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له”.(رواه مسلم في صحيحه)

وكان أعظم ما يشغل سيدي وشيخي، تقويم الفكر، وتصحيح المفاهيم، وتكوين حركة عقلية واعية ناقدة داخل الحركة الإسلامية، وكان من الوسائل التي تحقق هذا الهدف وانتهى إليها تفكيره، إصدارُ صحيفة أدبية فكرية عصرية ذات مستوى رفيع، تهتم بمشكلات الشباب، وقضايا الأمة الكبرى، وأزمة الفكر الإسلامي، والحركة الإسلامية، من منطلق الشريعة والنظرة الإسلامية الأصيلة، وفي ضوء اجتهاد عصري لا يتعصب لقديم ولا يتعبد لجديد، هذه هي فكرة ندوة العلماء ومنهجها، فكانت هذه هي الصحيفة التي تمثلت في صحيفة”الرائد” التي أنشأها بمساعدة زملائه وتلامذته، وكان مقبولاً ومحبوبًا لدى تلامذته.

فإن الحديث عن سيدي وشيخي سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، ذو شجون، ومجال القول ذو سعة، ولا نستطيع أن نوفيه ما يستحقه في هذه العجالة، إنما هي كلمات سريعة كتبتها على عجل، أودع بها سيدي وشيخي وفاءً لبعض حقه، ومعرفة بقدره، وتقديرًا لمكانته وفضله، ولخدماته وجهوده المباركة المشكورة في مجال العلم والأدب والدعوة والتربية والتوجيه والإرشاد والتزكية والإحسان.

ففقدتُ بفقدك –يا سيدي وشيخي– أبا حنونًا، وأما رؤومًا، منذ اتصلت به انعقدت بيني وبينه آصرة متينة وصلة وثيقة، صلة حب وأخوة، وصلة استرشاد واستنارة، واستهداء واستنصاح؛ بل صلة الولد بالوالد، لم تزدها الأيام إلا قوة وتوثُّقًا، فكلما التقيتُ به أو جئتُ إليه لأمر ما، خصَّني بعطفه وحنانه وحبه وشفقته.

ألا يا صخر إن أبكيت عيني

فقد أضحكتني زمنا طويلا

دفعت بك الخطوب وأنت حي

فمن ذا يدفع الخطب الجليلا

إذا قبح البكاء على قتيل

رأيت بكاءك الحسن الجميلا

رحم الله سيدي وشيخي، وغفر له، وأسكنه الفردوس الأعلى، وتقبله في المتقين من عباده، وحشره مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

×