ومضة من حياة فاتح القسطنطينية المعنوي

القصاب لا تهوله كثرة الغنم
21 أبريل, 2021
الرومانسية في الشعر العربي
21 أبريل, 2021

ومضة من حياة فاتح القسطنطينية المعنوي

يزخر التاريخ الإسلامي بالشخصيات العظيمة التي وضعت البصمات النيرة الواضحة الأثر في مختلف ميادين الحياة، ولا يكاد يخلو من عظماء الإصلاح والتجديد دور من أدواره، وكان لهذه الشخصيات لها دور كبير في انتشال قومها من الحضيض الذي يؤدي به إلى الخيبة والخسران، فانتهجت هذه الشخصيات للتخلص بقومها منه منهاجاً غير المناهج المألوفة، وأحدثت في التاريخ تغييراً لم تزل تسعد وتتمتع به عشرات الأجيال إلى مدة مديدة. وكانت حياتهم نموذجاً للآخرين وقدوة للطالبين، ومَجْلاة للقلوب من الصدأ والكسل، ومَدعاة لتحريك الهمّة للجِد والعمل. يقول الشيخ عبدالفتاح أبوغدة: “إن خير وسيلة لإشعال العزائم، وإثارة الروح الوثّابة، وقَدْح المواهب، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق بصَمتٍ وهُدوء ودون أمر ونهي، والتسامي إلى معالى الأمور، والترفّع عن سَفْسافها، والائتساء بالأسلاف الأجلاء: هو قراءة سير نبغاء العلماء الصلحاء، والوقوف على أخبار الرجال العظماء، والتملّي من اجتلاء مناقب الصالحين الربّانيّين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المُجدّين”.

فمن هؤلاء العباقرة الفاتحُ المعنويُّ للقسطنطينية الشيخ آق شمس الدين، الذي فتح قلوب العامة والخاصة في زمانه بدعوته وارشاداته، وكان مرشداً روحياً للسطان محمد فاتح القسطنطينية، واسمه الكامل: محمد بن حمزة الدمشقي ثم الرومي المعروف بآق شمس الدين، وهو من أحفاد شهاب الدين السهرودي.

ولد بدمشق عام (792ه- 1389م) وارتحل مع والده في صغر سنه إلى الروم، وحفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره، وقرأ على علماء الروم، وتضلع من العلوم الإسلامية والطب، حتى أصبح مدرساً بمدرسة عثمابخق، ثم مال إلى التصوف، فبايع على يدي الحاج بيرام، ولزمه وخدمه زمناً، حتى حصل عنده الطريقة، قال الشوكاني: “صار آق شمس الدين مع كونه طبيباً للقلوب طبيباً للأبدان”. إنه جمع بين غزاة العلم والتقوى، ففاض قلمه بكتب علمية دقيقة في الطب والعلوم الإسلامية، وأصبح في أرض الروم معقلاً إسلامياً عظيماً، ومركزاً كبيراً للتعليم والتربية والتوجيه والإرشاد، وظهرت بركته وفضله منذ وطأتها قدماه، فكان الطلاب يقصدون إليه لتحصيل العلوم الإسلامية، كما يتوافد إليه الناس بعدد كبير للإصلاح والتزكية، فدرس آق شمس الدين للأمير محمد الفاتح العلوم الأساسية من القرآن والسنة النبوية والفقه الإسلامي، عندما تولى السلطان إمارة “مغنيسا” فكان الشيخ آق من المشرفين على تدريبه على إدارة الولاية وأصول الحكم.

من أعماله الجليلة أنه استطاع أن يقنع الفتى الناشئ محمداً بأنه سيتحقق على يديه ما ورد في الحديث النبوي الشريف من بشارة فتح القسطنطينية؛ «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش» فلما أراد السلطان محمد الفاتح وهيأ له جيشه وتقدم به إلى أسوارها أرسل وزيره أحمد باشا إلى الشيخ آق ليدعوه للجهاد، ويسأله الحل فردّه الشيخ بكلمة تاريخية “لابد من أن منّ الله بالفتح”. وقال له: سيدخل المسلمون القلعة في يوم كذا. كانت نظراته ينابيع رقراقة يتدفق منها الحب للسلطان والحزن عليه،فبدأ الجيش الإسلامي محاصرة القلعة براً وبحراً.

ذكر بعض أبناء الشيخ آق إن الحرب العنيفة دامت أكثر من خمسين يوماً، ولكن الفتح لم يتيسر للجيش الإسلامي ففزعنا عليه من السلطان فزعاً شديداً، فذهبت إليه مهرولا في تلك الحال فوجدته في خيمته ساجداً على الأرض، مكشوف الرأس، يناجي ربه، ويتضرع إليه، ويبكي، وتنحدر الدموع على خديه، ثم رفع رأسه وقام على رجليه، وكبّر وقال: الحمد لله منحنا فتح القلعة، يقول أصحابه: إن السلطان كان في مقر قيادته فنظر إلى أسوار القلعة، فإذا بالجيش الإسلامي قد دخل سور القلعة وتدفق منها الجنود إليها، لاشك في أن الله تعالى لا يرد يدي عبد من عباده المخلصين الصالحين المقبولين صِفراً خائبتين. ففرح السلطان بذلك وقال: “ليس فرحي لفتح القلعة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني”، وهو الذي أول من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا بعد فتح القسطنطينية.

ذكر صاحب البدر الطالع: جاء السلطان بعد يوم إلى خيمة الشيخ آق وهو مضطجع فلم يقم له، فقبل السلطان يده وقال له: جئتك لحاجة. قال: ما هي؟ قال: أن أدخل الخلوة عندك فأبى… وقال له: إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك، والغرض من الخلوة تحصيل العدالة، وقدّم إليه النصائح الغالية. ثم أرسل إليه السلطان ألف دينار فلم يقبل.

ثم طلبه السلطان ليلاً في اليوم التالي، وبات عنده، وإذا أصبحوا، صلى بهم الفجر، والسلطان جالس أمامه على ركبتيه يسمع الأوراد، فلما أتمها، التمس منه السلطان أن يعين قبر أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فذهب الشيخ إلى أسوار القسطنطينية، وقال: لعلي أجده هنا. فقال له السلطان إني أصدقك، ولكن التمس منك أن تحدد علامة أراها بعيني ويطمئن قلبي، فقال الشيخ: احفروا هذا الموضع، وستجدون، وبعد أن تحفروا ذارعين تجدوا رخاماً عليه خط، فلما حفروا مقدار ذراعين ظهر الرخام عليه خط، فقرأه من يعرفه فإذا هو قبر أبي أيوب، فتحير السلطان.

وكان يشخّص الأدوية للأمراض البدنية وخاصة بالأمراض المعدية. لأنها كانت تسبب لموت الآلاف في عصره، وألف في ذلك كتاباً بالتركية بعنوان “مادة الحياة”، وله مصنفات أخرى: منها رسالة في التصوف، ورسالة في دفع مطاعن الصوفية.

ثم ساقته الحاجة إلى موطنه في الزمن الأخير مع أن السلطان ألح أن لا يغادر تركيا. وتوفي هنا عام 863ه -1459م. فرحمه الله رحمة واسعة.

الهوامش:

  1. تاريخ المشاهير للقاضي محمد سليمان المنصورفوري
  2. البدر الطالع للشوكاني
  3. العثمانيون في التاريخ والحضارة للدكتور محمد حرب
  4. الدولة العثمانية لمحمد الصلابي

 

عبد الودود الندوي

×