إذا صلحا صلح الناس …

قبل أن يفوت الزمام
25 سبتمبر, 2022
التضامن الإسلامي
26 نوفمبر, 2022

إذا صلحا صلح الناس …

محمد وثيق الندوي

الأمة الإسلامية أمة الدعوة والهداية، أمة القيادة والسيادة، أمة التوجيه والإرشاد، أمة الوصاية على البشرية، وإنقاذها من الظلام والشقاء إلى النور والسعادة، وأمة الأمن والسلام، وإن هذه المسؤولية العظيمة لا تتحقق إلا بالأمراء الصالحين والحكام العادلين، والعلماء الصالحين والدعاة المخلصين، فمما يؤثر أن صنفين من الأمة إذا صلحا صلح الناس،وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والعلماء، فالأمراء لهم القيادة السياسية والتنفيذية،والعلماء لهم القيادة الفكرية والروحية، وبصلاح القيادتين يصلح المجتمع، وتصلح حياة الناس.

فالخطر فساد القيادتين،أو فساد إحداهما،ولاسيما قيادة أهل العلم، فهم الأمل في الخلاص إذا فسد السادة والحكام، يرى الإمام الغزالي رحمه الله: أن فساد المجتمعات بسبب الملوك والحكام، وإنما يفسد الملوك بفساد العلماء، وإنما فساد العلماء بفساد قلوبهم، وفساد قلوبهم، إنما هو بسبب حب الدنيا ونسيان الأخرة، كما روى ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت”، فحبُّ الدنيا ونسيان الآخرة وكراهية الموت يفسد الإيمان الذي هو منبع القوة والتأثير، ومصدر النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة ” وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ “.

ولذلك يبدأ الإصلاح المطلوب بإصلاح أهل العلم، وإصلاح أهل العلم -كما يقول بعض الخبراء- يدور على أمرين: إصلاح العقول والأفكار، وإصلاح القلوب والضمائر، فإصلاح القلوب لابدَّ له أن يبدأ من دور الحضانة؛ من المعهد الذي يكوِّن عقل الطفل، بحيث يتعلم فيه ثقافة إسلامية خصبة وحية، مؤسسة على لباب العلم، لا على فشوره، وعلى الجوهر لا على الشكل، وعلى المعنى لا على اللفظ، وهادفة إلى إيقاظ الروح والقلب، بجانب إضاءة العقل والفكر، وجامعة إلى هذه الثقافة الإسلامية، ثقافة عصرية لائقة، تصله بالزمان والبيئة.

فلابُدَّ أن يتجرَّد رجال الدين والعلماء عن الشهوات وطلب الجاه والمنصب، ويزهدوا فيما عند الحكام والأمراء والوزراء، فيخضع لهم الحكام ويأتونهم صاغرين كما وقع في الماضي، عندما رفضوا الدنيا فجاءت راغمة تخدمهم،ولذلك أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي، وكانوا قدوة صالحة وعملية لأخلاق المؤمن الذي صوَّره الإمام الحسن البصري تصويرًا رائعًا ووصفه وصفًا جميلاً، فيقول:

” إن من أخلاق المؤمن قوة في دين، وإيمانًا في يقين، وعلمًا في حلم، وحلمًا بعلم،وكيسًا في رفق، وتجمُّلاً في فاقة، وقصدًا في غنى، وشفقة في نفقة،ورحمة لمجهود، وعطاء في الحقوق، وإنصافًا في الاستقامة، ولا يحيف على من يبغض،ولا يأثم في مساعدة من يحب، ولا يهمز، ولا يلمز، ولا يلغو، ولا يلهو، ولا يلعب، ولا يمشي بالنميمة،ولا يتبع ما ليس له، ولا يجحد الحق الذي عليه، ولا يتجاوز في العذر، ولا يشمت في الفجيعة إن حلت بغيره،ولا يسر بالمعصية إذا نزلت بسواه.

المؤمن في الصلاة خاشع، وإلى الركوع مسارع، قوله شفاء، وصبره تقى، وسكوته فكرة، ونظره عبرة، يخالط العلماء ليعلم، ويسكت بينهم ليسلم، ويتكلم ليغنم، إن أحسن استبشر، وإن أساء استغفر، وإن عتب استعتب، وإن سفه عليه حلم، وإن ظلم صبر، وإن جير عليه عدل، ولا يتعوذ بغير الله، ولا يستعين إلا بالله، وقور في الملأ، شكور في الخلاء، قانع بالرزق، حامد على الرخاء، صابر على البلاء، إن جلس مع الغافلين كتب من الذاكرين، وإن جلس مع الذاكرين كتب من المستغفرين “.

ومما يبعث على الأسف أنه تغيرت هذه الأخلاق اليوم،وعكس الأمر،وانقلب المعيار،ففقد التأثير،وضعفت القوة، وزالت المهابة،ولما رأى الجيل المعاصر من أخلاق أهل العلم الذين يمثلون الدين، وحبِّهم للجاه، ونهامتِهم للمال، وتحاسُدهم وتباغُضهم وتحارُبهم، ما أساء ظنَّه برجال الدين، بل بالدين نفسه الذي يمثلونه، فنشأت عنده الشكوك والشبهات، وتزعزعت العقيدة، واضطرب في الحقائق والثوابت اضطرابًا، وأصبح يشك في الحقائق الدينية، فعلى رجال الدين أن يتمردوا على المادة، ويخرجوا من سلطان المطامع والشهوات، ويتصفوا بقوة النفس، والحرية، ومعاني الإنسانية السامية، ولا تشغلهم  قضية نفوسهم، عن قضية الإسلام الذي تألب عليه المتألبون، وافترق خصومه على أمور شتى؛ ولكنهم اجتمعوا على محاربته، والكيد له، والتربُّص بأهله، والاعتداء على حرماته، وبات الإسلام يعاني الآلام، ويشكو الجراح من القوى الاستعمارية العالمية، والصليبية الغربية الحاقدة، والشهوات والخلافات الحزبية والفئوية، والموضات الإلحادية، والإباحية،وأصبحت البلاد الإسلامية نهبًا مقسمًا في أيدي أعدائها، يستنزفون خيراتها، ويمتصون دماءها، ويوجهونها وجهتهم التي يريدونها.

فعلى العلماء أن يقوموا بتجريد نفوسهم مما لا يليق بشأنهم، وبمنزلتهم العلمية،وبمنصبهم منصب التوجيه والإرشاد، ومنصب النصح والعطاء،ويقوموا بواجبهم الديني نحو الحياة،ويسيروا على المنهج الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته،فيخضع لهم الناس، وبصلاحهم ينشأ مجتمع إسلامي يصلح لقيادة العالم، كما يجب عليهم أن يُعِدُّوا ويخرِّجوا قادة وموجهين، يخدمون الإسلام، ويؤدون ما نيط بهم من مسؤوليات،ولا يخشون إلا الله، وكذلك واقع الجامعات والمدارس الإسلامية يجب أن يتغيَّر، وفي صالح الإنساينة أن يتغيَّر، وفي صالح الدعوة والقيادة أن يتغيَّر، وأن تخرِّج رجال علم وفكر ودعوة، يكونوا قدوة وأسوة للنظام الإسلامي الكامل للحياة، وتوفير الحياة السعيدة الكريمة، ويحلو لي أن أنقل هنا ما قاله الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي في محاضرته التي ألقاها في جامعة كشمير في سري نغر في شهر نوفمبر عام 1981م، فيقول:

” إن الشروط الأساسية للحياة الكريمة الناجحة المأمونة من الخطر والضرر، هي معرفة الطريق إلى حياة إنسانية نبيلة، والخشية لله الواحد، وحبُّ الناس، وصلاحيةُ ضبط النفس وقسرها، وصفةُ إيثار المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية، واحترامُ الإنسانية، والعواطف الكريمة للحفاظ على الأنفس والأعراض والأموال، وإيثارُ أداء الحقوق لأهلها على المطالبة بها، وحمايةُ المضطهدين المظلومين ونصرةُ الضعفاء المساكين، وجراءة مواجهة الطغاة الجبارين، وعدمُ الخوف من الناس الذين لا يحملون إلا الثروة والجاه، وعدمُ الخضوع أمامهم، والصراحةُ بقول الحق دائمًا، والشهادةُ على نفسه وجماعته، والتمسُّكُ بالعدل لنفسه ولغيره، وإقامةُ القسطاس المستقيم، والإيمان الجازم بإله قادر شاهد بصير، والتفكيرُ في المسئولية أمامه، والخوفُ من حسابه، هذه هي الشروط الأساسية للحياة الشريفة المحترمة، وهذه هي الضمانات اللازمة لوجود المجتمع الصالح الرشيد، والحكومة القوية المحروسة، وإن تربية هذا المجتمع وتهيئة الجو المناسب له من أولى فرائض الجامعات، والمؤسسات العلمية، وإيجاد هؤلاء الشباب من أهم مسئوليات المثقفين والمفكرين والمسؤولين في البلاد”.

×