إذا جاء القدر عمي البصر

الشيخ عبد السلام القدوائي الندوي: حياته ومآثره
27 مايو, 2021
توبة.. وابتهال
27 مايو, 2021

إذا جاء القدر عمي البصر

كان ابن عباس-رضي الله عنه-يفسر ذات يوم قصة سليمان-عليه السلام-في القرآن، فتكلم في الهدهد وقابليته الغريبة في طلب الماء والكشف عن تواجده تحت الأرض، فاستغرب قوله نافع بن الأزرق الحروري وسأله: كيف يبصر الهدهد الماء تحت الأرض؟ قال ابن عباس-رضي الله عنه-: لأن الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها، فقال نافع: إذا كيف لا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه؟ قال -رضي الله عنه-: “إذا جاء القدر عمي البصر”.(مفاتيح الغيب: 3/396).

كأن ابن عباس-رضي الله عنه-استمد معنى قوله من قول النبي-صلى الله عليه وسلم-:”لا ينفع حذر من قدر”، وعبر بقوله ذاك عن سنن الله الكونية، واختزل فيه التجارب البشرية، وفسر به البدع من الأحداث والتطورات والتقلبات التي تحار في تأويلها العقول، ولقرب قول ابن عباس-رضي الله عنه- من الواقع، وكثرة تطبيقاته في الحياة كثرت الأقوال في هذا المعنى، فقد قيل: “إذا جاء الحين غطى العين”، وقيل: “المرء طالب والقضاء غالب”، وقيل: “إذا انقضت المدة لم تنفع العدة”، وقيل: ” إذا نزل البلاء ذهبت الآراء”.

والقدر إذا نزل بأسبابه فإما يغيب الحذر عن العقول الراجحة فلا يحضر وإن ألحت في استدعاءه، وإن حضر فلا ينتفع بمعالجته أهل الوبر والمدر، وإن كانوا أحذر من الغراب، وأعقل من البهلول، وأسرع من الريح، وأذكى من دهاة العرب، إلا إذا شاء الله الذي أنزل القدر، وأمر بالأخذ بالحذر المشروع الذى تتطلبه الظروف، وهو يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد.

يكتب ابن خلكان أن العاضد بن يوسف آخر ملوك مصر من العبيديين الفاطميين رأى في منامه أن عقربا خرجت إليه من مسجد معروف بمصر ولدغته، فارتاع وطلب معبري الرؤية، فقالوا له: “ينالك مكروه من شخص مقيم في هذا المسجد”، فأمر العاضد والي مصر أن يحضر من هو مقيم في المسجد الفلاني، فأتاه الوالي برجل صوفي أكثر منه العاضد السؤال عن شأنه وألح، والرجل يجاوبه عن كل سؤال، فلما ظهر للعاضد ضعف حال الرجل وعجزه عن إيصال المكروه إليه أعطاه شيئا وطلب منه أن يدعو له وأطلق سبيله.

عاد الرجل إلى مسجده ذاك، ومرت الأيام تتلوها الأيام، إلى أن دخل صلاح الدين الأيوبي مصر، وكاد أن يستتب له الأمرفيها، وعزم على خلع العاضد، واستفتى الفقهاء، فكان أول من أفتى بالجواز، وبالغ في الفتيا هو هذا الرجل الذي أهمله العاضد، وكان من جرأة الرجل أنه لما تهيب الناس الخطبة لبنى العباس وقطعها عن الفاطميين بعد موت العاضد، قام ووقف بعصاه أمام المنبر وأمر الخطيب بالخطبة لبنى العباس.

ومن هو هذا الرجل؟ إنه الفقيه الكبير الزاهد، الورع الفاضل أبو البركات محمد بن موفق نجم الدين الخبوشاني الشافعي(587هـ)، مصنف(تحقيق المحيط)(و”المحيط” لمحمد بن يحي 548هـ) في ستة عشر مجلدا، وكان يستحضر هذا الكتاب، وهو أول من دعا إلى فكرة بناء المدارس في مصر، حظي بعلمه وفقهه ومقاومته لأهل البدع وجرأته في الحق عند السلطان صلاح الدين الأيوبي.(وفيات الأعيان: 3/111).

نقطة التأمل في هذه القصة أنه كيف خفي شأن هذا الرجل على العاضد وأشياعه؟ وكيف لم يهتد العاضد إلى أنه سيكون هو سببا من أسباب خلعه وزوال دولته بعدما رأى في المنام ما رأى؟ وكيف استقل شأنه وأهمل حاله؟ رغم أن الذهبي نقل أن الرجل كان يقول جهرا: “أصعد إلى مصر، وأزيل ملك بنى عبيد اليهودي، حتى نزل بالقاهرة، وصرح بثلب أهل القصر، وجعل سبهم تسبيحه”(سير أعلام النبلاء: 21/206)، فكيف لم يتابع العاضد شخصا جهر بسريرته فضلا عن علانيته؟.

تلك أسئلة ليس لها جواب إلا أنه إذا جاء القدر عمي البصر، فالعاضد كان قد أقام بسوآته الحجة على نفسه وعلى ملكه، ودعا سنة الله أن تعمل فيه، فالمعروف في التاريخ أن العاضد كان أكثر الفاطميين فسادا وانحلالا في العقيدة، وأشدهم وقوعا في الصحابة واستهتارا بهم، وظلما واعتداءا على أهل السنة في مصر فاستحكم عليه وعلى ملكه القدر، وأتاه الله من حيث لم يحتسب.

إن لهذه القصة أشقاء وأخوات في الماضي، وأمثال في الحاضر، ولن يعدم من أشباهها المستقبل، تلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

إن أمثال هذه القصة نفشت في الأمم والجماعات، وفي الإمبراطوريات والحضارات، كما تكررت في العباقرة والجهابذة من الأشخاص الذين رفعهم القدر بأسبابه وعلا بهم إلى علياء السماء، ثم خفض بهم بأسبابه إلى حضيض الأرض.

والواقع يشهد أن الزوال إذا مد رواقه الأسود على من نزل بهم القدر من أصحاب الإمبراطوريات أو العبقريات، وبدأ يغشاهم الخمول والنسيان، فهم ينقسمون قسمين: أناس يؤوب اليهم ما عزب من رشدهم ووعيهم فيتأملون في الأسباب ويتخلون عنها في أول وهلة، ويتوبون عما سلف، ويعزمون على أنهم لن يعودوا إليه، وذلك أيضا من القدر، فأمرهم إلى الله، إن شاء أبقاهم كما هم وأن شاء رد إليهم ما سلب منهم بل زاد وأكثر.

ولو تأمل منهم المتأملون، ووقفوا على أنفسهم هنيهة ونبشوا عن ذات صدورهم ساعة لعلموا أن حالهم هذه قد سبقتها مثلات ونذر ومنبهات، لئلا تكون لهم على الله حجة، فلم ينتبه لها منهم أحد، ولم يشخص إليها منهم بصر باصر، فنفذ القدر، وعمي البصر، وهاج دقيق جليلا، وهدت فأرة سدا، جبار قصمه ضعيف مهجور، وعبقري بزه مهمل مجهول، وإمبراطوريات قضت عليها أسباب لا يرفع إليها رأس ولا يقام لها وزن. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾…. (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح:4-7]

سلمان نسيم الندوي

×