عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (2)

أحجاج بيت الله ألف تحيّة
30 يوليو, 2020
شعر وحكمة
14 سبتمبر, 2020

عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (2)

مرض “مركب النقص” وما يسبب من ضغن وحسد:

وهناك عامل ثالث، عميق الجذور في النفس الإنسانية، قوى السيطرة عليها، وهو مرض نفساني يصاب به كثير من العقلاء والعظماء، والأقوياء والرؤساء، وهو مثال للتناقض الغريب الذي عجنت به طينة الإنسان،وتجلى في مظاهر غريبة، وفي غموض والتواء، قد لا يهتدى إليه كبار علماء النفس ولا يتفطن له كثير ممن يصابون به، وهو ما يعبر عنه علماء النفس اليوم بـ”مركب النقص”.

وهو من أكثر أمراض النفس تعقُّداً وأصعبها علاجاً، وإليكم شرح هذه النكتة في إجمال واختصار:

إنني أوجه إليكم سؤالاً يطلب منكم جواباً سريعاً صريحاً، لماذا يحارب المفارق لدينه المضطرب في عقيدته، أولئك الذين كانوا يشاركونه في عقيدته ودينه بالأمس، وما أساؤوا إليه وما حاربوه، لقد كان هذا الرجل مسلماً متديناً بالإسلام بالأمس، فلماذا عاد محارباً للعقيدة التي كان يدين بها ولأقرانه وبني جلدته وأبناء ملته الذين عاش معهم حقبة طويلة، لماذا يحاربهم اليوم حرباً شعواء، لماذا ينزل عليهم أنواعاً من العذاب تقشعر منها الجلود، لماذا يتفنن في تعذيبهم وإيلامهم، لماذا يقوم لهم بالمرصاد في كل وقت؟ وإن له في حياته وبرامجه وفي مسئولياته الكثيرة وفي لذاته وهواياته ما يشغله عن كل ذلك، ولكنه يجد في وقته الذي ضاق عن كثير من المهمات متسعاً لعقوبة هؤلاء ومطاردتهم واضطهادهم فيتفرغ لهم ويحصى عليهم الأنفاس ويعاقبهم أشد العقاب، ويتلذذ بذلك، وقد يكون لكثير من هؤلاء محبًا لهم والآن أصبح أعدى عدوّ لهم، لا يطيب له العيش، ولا يجد لذة في الطعام والشراب حتى يعاقبهم أشد عقاب ويذيقهم سوء العذاب.

هذا مركب النقص في هذا الرجل الذي حرم عزة الإيمان ولذته، صار ينظر إلى هؤلاء الذين لا يزالون متمسكين بدينهم، معتزين به، نظرة فيها السخط، نظرة اجتمع فيها احتقار النفس، والإدلال بها اجتماعاً غريباً، وهو في وقت واحد يحتقر نفسه، ويبالغ في تعظيمها، نظرة تنطوي على حقد شديد، وانتقام للنفس، لماذا كفرت وآمنوا؟ لماذا آثرت الخروج من هذا الدين، وبقي هذا العدد الكبير متمسكاً بدينه وعقيدته، معتزاً به؟ هل هم أفضل مني ملقاً، وأكبر مني عقلاً، وأكثر مني تمسكاً، وأغير مني على مبادئهم وضمائرهم، وأعف من مساومتها والتخلي عنها؟ هل عندهم من الذكاء والعبقرية، ومن الإباء ما ليس عندي؟ هذا مركب النقص، الذي يصاب به هؤلاء الذين يرون رأياً غير ما رأه المسلمون.

المصابون بهذا المرض من العقلاء والزعماء، وتناقضهم العجيب:

وقد يبدو هذا المصاب بمركب النقص متكبراً متجبراً متغطرساً، ويكون في أكثر الأحوال غافلاً عن وجود هذا المرض الذي يصاب به صغار النفوس، وضعاف العقول، وما هو إلا نتيجة الشعور بالضعف في أعماق النفس، ويقع كثير من الزعماء والقادة، ورؤساء الجمهوريات ورؤساء الوزراء، فريسة هذا المرض العضال، والعقدة النفسية، التي تفوق أكثر العقد النفسية دقة وتعقداً، يصابون به كما يصاب الأطفال الصغار، والجهال الأميون، ويتسلط عليهم هذا المرض يأمرهم وينهاهم، ويملي عليهم أحكامه فيخضعون لها ويمتثلونها كالعبيد، تقول لهم نفوسهم المريضة الجريحة، يجب أن ينفى هؤلاء المعارضون، ويغيبوا ويتواروا عن الأنظار حتى لا يقول قائل: إن هؤلاء متمسكون، وهذا مضطرب، وإن هؤلاء أقوياء، وهذا ضعيف النفس، وضعيف الإرادة، قد باع ضميره، وباع دينه بدنياه.

محاولة التخلّص من تأنيب النفس وإيلام الضمير:

إن أكبر مجرم – كما يعرف علماء النفس – يعاوده تأنيب النفس، ووخز الضمير بين حين وآخر، إلا أن يمسخ مسخاً كلياً، ويقوى هذا التأنيب عند وجود طراز آخر من العقيدة والخلق، ومنهج الحياة، لذلك حرص كثير من المجرمين، وعباد النفس والشهوات، والمنحطين للدرك الأسفل، من فساد الأخلاق، على إخراج العنصر النظيف الطاهر، المتمسك بالفضائل، من أرضهم ومجتمعهم، ليريحوا ضمائرهم بشكل دائم، ويتخلصوا من لومة نفوسهم وألمها في بعض الأحيان، وهذا الذي حكاه القرآن عن أمة أسفلت إلى درجة قصوى في الانحطاط الخلقي، والشذوذ الجنسي، ونقل مقالتهم: “أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ” [النمل:56].

نفسية الضعيف العاجز:

إنه نوع من مركب النقص لم يبحثه علماء النفس، وليس منهم بسبيل، ولا موضوعاً يهمهم، ولعله أكثر دقة، وأكثر غموضاً، وأبعد أغواراً من جميع أنواع مركب النقص، التي بحثوا عنها في كتبهم المؤلفة فيعلم النفس والأخلاق، وهي نفسية غريبة، يسهل فهمها في ضوء التجارب والواقع، أما ترون إلى طالب راسب – وهذا المثل أقرب إلى أذهانكم وحياتكم – كيف يعادي زملاءه الناجحين، وقد يحمل لهم حقداً وضغينة، فما ذنب هؤلاء الزملاء، إنهم اجتهدوا واستحقوا النجاح، فمن منعك أيها الطالب الراسب من الاجتهاد والنجاح؟ إنه مركب النقص، وإن النفس تريد التسلية، والإنسان قد يتسلى بأمور لا تنفعه، وليست لها قيمة كبيرة، إن زملاءه لم يسيئوا إليه، ولم يحلوا بينه وبين النجاح، فما الذي أوغر صدره عليهم، لذلك التاجر المفلس الذي أفلس، يحسب أولئك التجار الذين يربحون في تجارتهم أعداءه، ومنافسين في بعض الأحيان، يتربص بهم الدوائر، ويشمت بمصائبهم، ويتسلى بما يسوءهم، وهذه هي نفسية الضعيف العاجز، الكسول، المضايع، وقد يتمنى أن يصبح كل تاجر في البلد، وكل زملائه في التجارة تجاراً مفلسين، قد خسروا رؤوس أموالهم فيكونون سواء، ومن الأمثال المضحكة أن أصلع سئل، ماذا تريد؟ قال: أحب أن يصبح الناس كلهم صلعاً، لا شعر برؤوسهم، فأنظر إليهم نظرة كانوا ينظرون بها إليَّ، وهذه العقدة النفسية، التي يصعب علاجها، وهي التي ابتلى بها أهل الكتاب في عصر تزول القرآن، والتي أخبر الله بها في كتابه، فقال: “وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ” [البقرة:109] ولا تزال هذه النفسية، قائمة في كل من لم يكتب له نصيب في هذه النعمة الجليلة.(يتبع)

(الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى)

×