الأستاذ الدكتور نذير أحمد الندوي
22 نوفمبر, 2025الأستاذ الدكتور نذير أحمد الندوي
22 نوفمبر, 2025معلم مثالي فقدناه
منصور السلوني الندوي
قصة تعرّفي على الشيخ الدكتور نذير أحمد الندوي تعود إلى أوائل عام 2015م عندما سعدت برؤيته، وتشرّفت بالاستماع إلى صوته الرخيم لأول مرة، وذلك بعدما تم التحاقي بدار العلوم لندوة العلماء بلكناؤ كطالب في السنة النهائية من المرحلة العالمية، وتتلمذت عليه، فقد قرأت عليه ” الأدب العربي بين عرض ونقد ” للشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى، وكان يدرّس الكتاب أحسن تدريس، فيلقي الدرس بأسلوب سهل سائغ واضح، ويتناول العبارة والكلمات الواردة فيها بالشرح بالعربية أوّلاً، ثم يتبعها بالشرح بالأردية، ليتمكن الطلاب من فهمها على أكمل وجه، ويترجم النصوص الأدبية والأشعار العربية ترجمة فصيحة سلسة مع مراعاة تامة للألفاظ والكلمات، وكان يحاول تنمية الذوق الأدبي في قلوب طلّابه، ويفيض عليهم بعطف وحنان، ويرغبهم في أن يطالعوا الكتب العربية الأدبية مع تركيز عنايتهم على الكتابة والتحدث باللغة العربية، حتى تصبح العربية لهم طبعًا وسجيّة.
وهكذا توثّقت العلاقة بيني وبينه، وازدادت قوة حين سنحت لي فرصة القراءة عليه والاستفادة منه في قسم التخصص في اللغة العربية وآدابها، فكنت ألتقي بالأستاذ الكريم حيناً لآخر، وأعرض عليه ما يعرض لي من معقّدات لغويّة وأدبيّة، فكان يُسرّ بذلك سروراً، ويثني على صلتي بالعربية وحرصي عليها، ويخصّني بعناية واهتمام زائدين، ويُفيض عليّ من تشجيعه وحفزه ما يملأ القلب حماساً وشوقاً إلى اللغة العربية. فاستفدت من الأستاذ استفادة، وارتويت من معين علمه الصافي، ونهلت من منهله ما زادني ذوقاً وشوقاً إلى العلم والمعرفة، واللغة والأدب.
ومما يدل على حبّه إياي، وحسن الظن بي أنه ذات مرة جاءه أمر من أمور الترجمة حول التصوف والسلوك من العربية إلى الأردية – وكنت طالباً في السنة الثانية من العليا من قسم الأدب – فوّضه إليّ تفضلاً وتكرماً، فشمرت عن ساق الجد، وأتممت الترجمة بما يسّر الله، فلما عرضتها عليه أشرق وجهه بشراً وسروراً، إذ وجد الأخطاء فيها قليلة نادرة يسيرة، فنبّهني إليها بلطف وتوجيه كريم، ثم أكرمني الأستاذ الكريم بجائزة قدرها أربع مأة روبية، فاعتذرت مراراً عن قبولها، غير أنه أصرّ عليّ بلطف وحنان، فلم أر بُدّاً من قبولها امتثالاً لأمره، وإجلالاً لمحبته.
ولما تخرّجتُ من مرحلة التخصص في اللغة العربية وآدابها في دار العلوم لندوة العلماء جئت إلى” مومبائ ” لأتولى أمر التدريس في مدرسة هناك، وكان ذلك بإيعاز منه، وكلما عدت إلى البيت في الإجازات حرصت على زيارة دار العلوم لندوة العلماء والالتقاء به، فكنت أمكث عنده عدة ساعات أستفيد منه، وكان يقول لي: “ليكن مثلك تلميذاً ” فكانت فرحتي تفوق كل تصور، وكان الأستاذ في أيام عطلة رمضان يحثّني على كتابة بعض الفقرات بالعربية وإرسالها إليه، فكنت أختار بيتاً أو بيتين من ” كليات إقبال” وأنقله إلى العربية، فيلقي الأستاذ على الترجمة نظرة فاحصة، فإذا وجد أي خطأ أصلحه برفق، وكنت أقول للأستاذ: رجاءً، هل تكرمتم بصياغة هذا البيت الشعري بالعربية حتى أتعلم كيف تُحوَّل النصوص من الأردية إلى العربية؟ فقبل وترجم البيتين التاليين ترجمة فصيحة بارعة.
كر بلبل وطاؤس كی تقلید سے توبہ
بلبل فقط آواز ہے، طاؤس فقط رنگ
لا تتقيد بالاتصاف بصفة دون صفة، فلا تحاك الطاؤوس ولا تقلّد العندليب، ذلك لأن الطاؤوس ليس إلا طائراً ذا ألوان ملوَّنة، ولا يتعداها إلى غيرها من المزايا، كما أن العندليب ليس إلا طائراً غرِّيداً ذا ألحان وأصوات مجرّدة، فاربأ بنفسك عن محاكاة الطاؤوس وتقليد البلبل.
ہوس نے كر ديا ہے ٹكڑے ٹكڑے نوع انساں كو
اخوت كا بياں ہو جا، محبت كی زباں ہو جا
لقد دعت الظروف والأوضاع إلى أن تكون ترجماناً للأخوة والوئام، ولساناً ناطقاً بالمحبة والمودة، فقد قطّع الطمعُ النوعَ البشري تقطيعاً، وجعله إرباً إرباً ومزّقه شر ممزق.
كان الأستاذ واسع الثقافة، يجيد العربية والأردية والفارسية والإنجليزية والهندية، يكتب ويتكلم بكل منها بطلاقة وجدارة.
عاش الأستاذ حياة حافلة بالجد، راضياً بقضاء الله وقدره، صابراً على ما أصابه من أمراض مضنية منذ عهد الطلب، مشغولاً بذكر الله.
كان الأستاذ مكبّاً على أعماله التدريسية والتربوية والدعوية، حتى اشتد مرضه مع أنه كان يعاني المرض منذ زمن طويل، فنقل إلى المستشفى للعلاج، ومع ذلك ما كان المرض ليقعده عن أداء مسؤوليته، فكان إذا أحس بشيء من الصحة والعافية استأذن الأطباء، وخرج إلى طلابه يلقي عليهم دروسهم بوجه مشرق كأنما لم يمسه بأس.
رحم الله الفقيد الراحل رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته، وأغدق عليه شآبيب رحمته ورضوانه، وأكرم نزله وأحسن مثواه مع النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

