“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (1)

أعلام من العلم والفكر
12 أكتوبر, 2025
أعلام من العلم والفكر
12 أكتوبر, 2025

“صحيفة المدينة “دراسة حديثية وتحقيق للدكتور هارون رشيد الصديقي (1)

د. أبو سحبان روح القدس الندوي
“قد نظم الرسول صلى الله عليه وسلم العلاقات بين سكان المدينة، من المهاجرين والأنصار واليهود في دستور معلن واضح البنود، يهدف إلى بيان التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات”(1).
وقد سمي هذا الدستور في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليه لفظة الدستور والوثيقة والمعاهدة، ويقال بالإنجليزية “Constitution”، واعتمد عليه الباحثون المعاصرون كأساس في دراسة تنظيمات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، وبنوا عليه دراساتهم، فنظرًا لأهمية الدستور كتبوا فيه قديمًا وحديثًا من المسلمين(2) والمستشرقين(3)، وأقدم من أورد نص الدستور كاملاً هو محمد بن إسحاق المتوفى سنة 151هـ، لكنه أورده دون إسناد(4)، وأورده مسندًا ابن أبي خيثمة المتوفى سنة 279هـ فيما ذكره ابن سيد الناس(5) بنحو الكتاب الذي أورده ابن إسحاق، ويبدو للدكتور أكرم ضياء العمري “أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خيثمة إذ لا وجود لها فيما وصل إلينا منه”(6).
كذلك وردت الوثيقة في “كتاب الأموال”(7) لأبي عبيد القاسم بن سلاّم الهروي المتوفى سنة 224هـ بإسناد آخر، كما وردت في “كتاب الأموال”(8) لابن زنجويه المتوفى سنة 251هـ.
هذه هي الموارد التي وردت منها الوثيقة بنصها الكامل، والتطابق كبير بين سائر الروايات سوى شيء يسير لا يُستهان به كتقديم وتأخير في العبارات أو اختلاف بعض المفردات أو زيادة بنود قليلة، وقد قارن الدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي بين سائر الروايات وأثبت الاختلاف في الحاشية من كتابه الماتع “مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي”. فلا يؤثر هذا الاختلاف في النسخ والروايات على مضمونها العام، و”كذلك أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها”(9)، “ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى يعطيها توثيقًا آخر”(10)، في حين ذهب الأستاذ يوسف العش إلى أن الوثيقة موضوعة”(11)، وقد ناقش أدلته في توهين الوثيقة العلامة العمري ويرى الحكم بوضع الوثيقة مجازفة، وهدم “اللَّتيَّا والَّتي” وقع فيها الأستاذ العش.
أما نص الوثيقة كاملاً فاعتنى بها قبل كل مُعتنٍ ابنُ إسحاق فيما ذكر ابن هشام المتوفى سنة 213هـ(12) وعلّق عليها السهيلي عبد الرحمن بن عبد الله الأندلسي المتوفى سنة 518هـ قائلاً:
“يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب هذا الكتاب قبل أن تفرض الجزية، وإذا كان الإسلام ضعيفًا، وكان لليهود إذ ذاك نصيب في المغنم إذ قاتلوا مع المسلمين، كما شرط عليهم في هذا الكتاب النفقة معهم في الحروب”(13).
وتبع نص الوثيقة المذكورة عند ابن هشام، الدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي المتوفى عام 2002م(14) وذكر الفروق الواردة في مظان الوثيقة ومواردها، متناولاً شرح الألفاظ في نص الوثيقة على الترتيب الهجائي، ومُراجعًا “لسان العرب” لابن منظور، إلا ما ذكره الدكتور حميد الله، ثم تألّق نجم من نجوم الأسرة العمرية على وجه البسيطة علامة العراق الدكتور أكرم ضياء العمري نزيل دولة قطر فنقل الوثيقة(15) بقضها وقضيضها عن الدكتور الحيدرآبادي، لأنه قارن بين سائر الروايات وأثبت الاختلاف في الحاشية، ثم نشأ في أرض الهند الفيحاء صاحبنا الدكتور هارون رشيد الصديقي (1933–2021م) وكتب رسالة جامعية بعنوان “صحيفة المدينة دراسة حديثية وتحقيق”. ولنا عود إلى التعريف بالرسالة وصاحبها في نهاية المشوار بإذن الله.
أما تاريخ كتابة الوثيقة فترجح عند الدكتور أكرم العمري بما ذكر من الروايات: “أن الوثيقة في الأصل وثيقتان:
إحداهما: تتعلق بموادعة اليهود، كُتبت قبل بدر أول قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.
والثانية: تتعلق بحلف المهاجرين والأنصار وتحديد التزاماتهم، كُتبت بعد بدر.
لكن المؤرخين جمعوا بين الوثيقتين”(16).
الهوامش:
1. الدكتور أكرم ضياء العمري: عصر السيرة النبوية، ص: 146.
2. تناول أسماءهم الدكتور هارون رشيد الصديقي: في الفصل الأول من الباب الثالث من رسالته للماجستير، وقد فاته ذكر اسمين، أحدهما: الدكتور صالح أحمد العلي ومقالته “تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة، والآخر: الدكتور عبد العزيز الدوري، وكتابه “النظم الإسلامية”.
3. تناول أسماءهم الدكتور الصديقي: في الفصل الثاني من الباب الثالث للرسالة المذكورة.
4. ذكره ابن هشام: في السيرة النبوية 1/501–504.
5. في عيون الأثر 1/198.
6. المجتمع المدني في عهد النبوة، ص: 108.
7. رقم: 518.
8. رقم: 750، كما في المجتمع المدني في عهد النبوة، ص: 109.
9. المجتمع المدني في عهد النبوة، ص: 111.
10. المصدر نفسه، ص: 112.
11. نقله العمري في المجتمع المدني في عهد النبوة، ص: 109.
12. في السيرة 1/501–504.
13. الروض الأنف 2/17، ناقلاً عن أبي عبيد من “كتاب الأموال”، ص: 197 بتعديل يسير.
14. في مجموعة الوثائق السياسية، ص: 1–7.
15. في المجتمع المدني في عهد النبوة، ص: 112–119.
16. المجتمع المدني في عهد النبوة، ص: 112 و117.