فضل التقوى
12 أكتوبر, 2025أعلام من العلم والفكر
12 أكتوبر, 2025الأديب الكبير نجيب محفوظ يكتب عن عبقرية سيد قطب في كتابه “التصوير الفني”
نشرت مجلة الرسالة، في العدد (616) الصادر في: 23 أبريل 1945، مقالا جميلا للأديب الكبير نجيب محفوظ، يتغزل فيه في كتاب الأستاذ سيد قطب “التصوير الفني في القرآن”، ويقول عن قطب في هذا الكتاب أنه “فتح الله عليك من سحر هذا الفيض الإلهي”، ويضيف بأن القرآن “بارك مجهودك فرفعك إلى مرتقى يتعذر أن يبلغه ناقد بغير بركة القرآن”، ويلاحظ في المقال شفافية الروح الدينية وعمقها عند الأديب الكبير، وكذلك الروح الطيبة التي كانت تجمعه مع سيد قطب، رحمهما الله.
وإلى نص المقال:
كتاب التصوير الفني في القرآن ـ للأستاذ سيد قطب
بقلم الأستاذ نجيب محفوظ
قرأت كتابك “التصوير الفني في القرآن» بعناية وشغف، فوجدت فيه فائدتين كبيرتين:
أولاهما للقارئ: خصوصاً القارئ الذي لم يسعده الحظ بالتفقه في علوم القرآن، والغوص إلى أسرار بلاغته، بل حتى هذا القارئ الممتاز لاشك واجد في كتابك نوراً جديداً ولذة طريفة، ذلك أن كتاباً خالداً كالقرآن لا يعطى كل أسراره الجمالية لجيل من الأجيال مهما كان حظه من الذوق وقدره في البيان، فللجيل الحاضر عمله في هذا الشأن، كما سيكون للأجيال القادمة عملها، والمهم أنك وفقت لأن تكون لسان جيلنا الحاضر في أداء هذا الواجب الجليل الجميل معاً، مستعيناً بهذه المقاييس الفنية التي يألفها المعاصرون ويحبونها ويسيرون في وادى الفن على هداها ونورها.
إن عصرنا – من الناحية الجمالية عصر الموسيقى – والتصوير والقصة، وها أنت ذا تبين لنا بقوة وإلهام أن كتابنا المحبوب هو الموسيقى والتصوير والقصة في أسمى ما ترقى إليه من الوحى والإبداع، ألم نقرأ القرآن؟ بلى، وحفظنا – في زمن سعيد مضى – ما تيسر من سوره وآياته، وكان – وما يزال – له في قلوبنا عقيدة وفي وجداننا سحر، بيد أنه كان ذاك السحر الغامض المغلق، تحسه الحواس، ويهتز له الضمير، دون أن يدركه العقل أو يبلغه التذوق، كان كالنغمة المطربة التي لا يدرى السامع لماذا ولا كيف أطربته، فجاء كتابك كالمرشد للقارئ، والمستمع العربي من أبناء جيلنا، يدله على مواطن الحسن ومطاوي الجمال، ويجلى له أسرار السحر ومفاتن الإبداع، كان القرآن في القلب فصار ملء القلب والعين والأذن والعقل جميعاً.
ولقد قلت بعد نظر طويل وتدير (التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن. فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الانساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقى بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة؛ وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرثية.. ومضيت تستشهد لكل حالة بالأمثال مفسرا شارحا موضحا، ولم تقتنع بذلك فتوثبت للبحث عن القواعد التي يقوم عليها هذا التصوير المعجز من التخييل الحسى والتجسيم في فيض من الأمثال والشواهد.
ثم لم تقنع بما فتح الله عليك من سحر هذا الفيض الإلهي فقلت (حينما نقول إن التصوير هو القاعدة الأساسية في تعبير القرآن وإن التخييل والتجسيم هما الظاهرتان البارزتان في هذا التصوير لا نكون قد بلغنا المدى في بيان الخصائص القرآنية عامة ولا خصائص التصوير القرآني خاصة….. هنالك التناسق الذي يبلغ الذروة في تصوير القرآن.» فكان هذا الفصل الذي بلغت به أنت أيضا الذروة في النقد والذوق والفهم. كنت أود لو أستشهد ببعض ما جاء في كتابك من النقد التطبيقي للآيات الكريمة، ولكن تضيق عن ذلك كلمتي الموجزة ويأباه ذوقي الذى يأبى المفاضلة بين آي الذكر على أي وجه من الوجوه.
«ومهما يكن من أمر فينبغي أن أقرر هنا أنه في فصلي التناسق الفنى» و«القصة في القرآن» قد بارك القرآن مجهودك فرفعك إلى مرتقى يتعذر أن يبلغه ناقد بغير بركة القرآن… أما أخرى الفائدتين: فهى لك أنت! لأن الكتاب في جملته إعلان عن مواهبك كناقد، إنك تستطيع أن تعبر أجمل التعبير عن أثر النص في نفسك، ولا تقف عند هذا فتجاوزه إلى بيان مواضع الجمال في النص نفسه وما يحفل به من موسيقى وتصوير وحياة، ثم تستنطق الموسيقى أنغامها وضروبها، وتستخبر الصورة عن ألوانها وظلالها، وتستأدى الحياة حرارتها وحركتها bere ولا تقنع بهذا كله! فيقرن ذهنك بين النص والنص، حتى تظفر وراء الظواهر بوحدة، وخلف الآيات بطريقة عامة، تجعل من الكتاب شخصاً حيا ذا غاية واضحة، وسياسة بارعة، وخطة موضوعة، تهدف جميعاً إلى الإعجاز الفني فتناله عن جدارة. فهذا ذوق جميل، وتذوق عسير وفكر ذو نفحة فلسفية.