أسوة حسنة على صاحبها ألف ألف تحية وسلام

اسمعي يا مصر (2/الأخيرة)
25 سبتمبر, 2025
ربيع الأول: من إشراقة الرسالة إلى ترسيخ الأمة واستكمال الدين
25 سبتمبر, 2025
اسمعي يا مصر (2/الأخيرة)
25 سبتمبر, 2025
ربيع الأول: من إشراقة الرسالة إلى ترسيخ الأمة واستكمال الدين
25 سبتمبر, 2025

أسوة حسنة على صاحبها ألف ألف تحية وسلام

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي
بعث الله تعالى خاتم رسله محمد بن عبد الله الأمين صلى الله عليه وسلم، وميزه بميزتين عظيمتين؛ أولهما أنه أكمل عليه دينه، وأتم عليه نعمته، بقوله: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3] فأكمل الله تعالى الدين الذي اختاره لعباده المؤمنين، وكانت شريعته تنتقل من نبي إلى نبي آخر من بعد النبي الأول آدم عليه السلام، ببعض التغيرات التي يجعلها الله تعالى حسب أحوال الأمم التي كان الأنبياء يبعثون إليها، فصارت هذه الشريعة على رسول الله محمد بن عبد الله الأمين تامة وكاملة، فلم يعد يأتي إليها تغيير أو تطوير، إلى يوم القيامة، وهي من أهم ميزتين حصلتا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما الميزة الثانية فهي أن الله تعالى جعل هديه وسيرة حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمختلف جوانبها الإنسانية والدينية أسوة حسنة كاملة وخالدة لكافة المؤمنين، يسيرون على خطاها ويتبعونها في أحوال حياتهم، ولما جعل الله تعالى هذه السيرة الكريمة العطرة أسوة حسنة إلى يوم القيامة، أشرف على بنائها إشرافاً خفياً قبل بدء نزول وحيه عليه، ومباشراً بعد بدء نزول الوحي إليه وحياً مقروءاً وغير مقروء، فقد رعاها وأشرف عليها بتوجيهاته القدسية التي نجد أمثلة منها في القرآن الكريم وفي الوحي الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف أحاديثه.
ومن أمثلة ذلك ما وقع عندما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الالتفات إلى أحد سادة قريش من الكفار يدعوه إلى الإسلام، وأفضى بذلك إلى قلة من الالتفات إلى مؤمن جاء إليه يسأل عن بعض الأمور الدينية، فلفت الله نظره إلى أن المؤمن أحق بالالتفات إليه، وإن كانت مصلحة الدعوة تقتضي عدم الالتفات إليه ولو لمدة يسيرة، فقد جاء في سورة عبسعَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ [عبس: 1ـ11]. وكذلك عندما قرر أخذ الفدية من الأسرى الكفار بعد انتصاره في غزوة بدر، وهكذا وجدنا مناسبات عديدة جاء فيها أمر الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم بتغيير رأيه، وبذلك حصلت للنبي الكريم الأعظم تربية واضحة ومستمرة من الله تعالى.
ونحن حينما نستعرض أحوال سيرته الكريمة العطرة من صغره إلى أن بلغ إلى أشده، ومن بدء الوحي الإلهي بالنزول إليه، إلى هجرته إلى المدينة المنورة، ثم إلى وفاته نجد أن التربية الإلهية رافقته في كل حين وآن، فإن وفاة والده الكريم قبل ميلاده، وكذلك وفاة والدته وهو لم يجاوز طفولته، لم تكن أمراً بسيطاً أو أمراً فجائياً، بل كانت من عند الله تعالى لتكون كجزء من تربية الله تعالى له، ليتربى قلبه صلى الله عليه وسلم على صبر عظيم، وقد جاء في المثل” الشدائد تصنع الرجال ” فكان الشعور بالحرمان الأبوي ثم الفاجعة الآتية من وفاة والدته الكريمة سبباً لتربيته على أعلى درجات الصبر، لاحتمال الشدائد، ثم أن عمه العظيم أبا طالب الذي كان قد حمل مسئولية كفالته بعد وفاة جده عاجلاً كان قليل البضاعة في الأسباب المادية، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر من خلال هذا العسر مع كونه في الدرجة الثانية بعد درجة أبناء عمه حتى بدا له بعد حصوله على بعض وسائل الكسب النزيه أن يعاون عمه بتحمله لشؤون الاقتصاد، فاقترح رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه عباس بن عبد المطلب أن يتكفل هو وعمه عباس الذي كان في خفض في العيش ولدين من أولاد أبي طالب، واختار هو منهم علياً بن أبي طالب، فلو لم يكن أبو طالب قليل البضاعة في المال لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التعاون لما بلغ هو إلى العمر الذي استطاع فيه تكفل نفسه ـ بقيامه بأعمال تأتي إليه بأسباب الرزق ـ وذلك بأن يقدم تيسيراً لأبي طالب في حالته المادية، ثم إن زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة الوقورة خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ لم يكن أمراً بسيطاً، فقد كانت تكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس عشرة سنة منه، وجاءت الخطبة من ناحية خديجة التي كانت تأبى قبول زوج لها من أشراف أسرته الآخرين، وأما قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الخطبة رغم وجود سيدات قرشيات عديدة تقارب أعمارهن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان ذلك تقديراً من الله تعالى لتكون هذه الزوجة الكريمة عند تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبء النبوة عضداً قوياً له في الشدائد التي واجهها في عمله الدعوي النبوي الكريم.
فهذه الأمور كلها كانت في حقيقة أمرها وسائل ناجعة لتربية الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة خفية من الله تعالى ليقوى لاحتمال أعباء النبوة الجليلة، ويكون أسوة حسنة للمؤمن إلى يوم القيامة، ولما بدأ نزول الوحي الإلهي فكانت التربية الإلهية ظاهرة وواضحة في مناسباتها العملية، وساعد في ذلك كون الرسول صلى الله عليه وسلم أمياً لم يتلقى تعليماً سائداً في زمنه فحل التعليم الإلهي محل ذلك وملأ فراغ ذهنه وعقليته، فكان مصداقاً لقول الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلباً خالياً فتمكنـا

وقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كغيره من أفراد أسرته وقومه فكانت التربية التلقائية من الله تعالى له بالمناسبات المذكورة عوضاً عن التعليم الرسمي، ويمكن أن يضاف إلى ذلك كون النبي صلى الله عليه وسلم يتيماً لم يتلق تربية من والده كذلك، وتوفيت والدته وهو طفل، لم يتلقى منها شئاً كبيراً وإنما تلقى شيئاً بسيطاً من والدته في سنه الصغيرة وحدها، فكان ركن التعليم والتربية في حياته الكريمة لم يملأه إلا التوجيهات الإلهية، وبذلك أصبح من اختصاص سيرته أنها صيغت بالتربية الإلهية وحدها، فأصبحت حياته الكريمة بذلك حياة إيمانية خالصة وإنسانية كاملة، فكيف لا تكون أسوة حسنة لأهل الإيمان الحاملين للخصائص الإنسانية الطيبة الحسنة.
وبناءً على ذلك لم نعد نأخذ أوامره الدينية، ونتبعها فقط، بل يجب أن ننظر إلى الخصائص السلوكية والآداب الخلقية ونتبعها إلى الحد الذي يسعنا، لتصبح حياتنا سائرة على منهاج السيرة النبوية الكريمة، وقد أمرنا الله تعالى بذلك بقوله:لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].