العرب أمام خيارين…
21 أغسطس, 2025من وحي شهر الربيع
د. محمد وثيق الندوي
مولدُ الرسول صلى الله عليه وسلم، هو مولدُ الإنسانية، وشهرُ ربيع الأول هو ربيع الإنسانية، كانت الفترة قبل البعثة النبوية، من أشدِّ الفترات التي مرَّت بها الإنسانية، ظلامًا وانحطاطًا، ومن أحطِّ أدوار التاريخ دينًا وخُلقًا، كانت الإنسانية تعاني فوضى عارمة في سائر شؤون حياتها، وكانت الجاهلية مخيمة بأطنابها على العقائد، والأفكار، والتصورات، والنفوس والأذهان، وكان الجهل والهوى، والانحلال والفجور، والتجبُّر والتعسُّف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهيمن على دنيا الناس.
ففي هذا الوضع الحالك بُعث نبي الرحمة والإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم ليقوم بإصلاح تلك الأوضاع الفاسدة، والظروف الاجتماعية المنحلة، والأحوال الدينية المنحطة، وإنقاذ البشرية المحتضرة، من الهلاك والدمار، فانبلج النور، وانجلى الظلام، وحلَّ الربيع، وولَّى الخريف، وساد الأمن، وزال الظلم، وعمَّ الرخاء والفضيلة، وارتفع الشقاء والرذيلة، وانتشرت الرحمة والسعادة، وانقشعت القسوة والتعاسة، ” اكتست صحراء العرب بفضل النبي العظيم حلة أنيقة، بل أنبتت زهرة يانعة، وإن عاطفة الحرية نشأت في ظل هذا النبي؛ بل ترعرعت ونمت في حجره، لقد وضع قلبًا نابضًا خفاقًا في جسد الإنسان البارد، وأزاح الستار عن طلعته الجميلة الوضاءة، وهزم كل طاغوت، وحطم كل صنم، وأورق به كل غصن يابس وأزهر، وأثمر، إنه روح معركة بدر وحنين، وإنه مربي الصديق، والفاروق، والحسين، وجرعة من كأسه أروت العقل والقلب، والتقى بها روح الرومي بفكر الرازي، واجتمع بها العلم، والحكمة، والدين، والشرع، والإدارة، والحكم، مع قلوب مخبتة منيبة في الصدور، فلا ريب أنه يستحق ثناء الجميع وشكرهم وحمدهم لأنه أسبغ نعمة الإيمان على هذه الحفنة من التراب”، كما أشار إلى ذلك أحد الكتاب، ويقول الشاعر العربي أحمد شوقي:
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
الـروحُ وَالـمَـلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ
لِـلـديـنِ وَالـدُنـيـا بِهِ بُشَراءُ
وَالـعَـرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي
وَالـمُـنـتَـهى وَالسِدرَةُ العَصماءُ
وَحَـديـقَـةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا
بِـالـتُـرجُـمانِ شَـذِيَّةٌ غَنّاءُ
وَالـوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ
وَالـلَـوحُ وَالـقَـلَـمُ البَديعُ رُواءُ
نُـظِمَت أَسامي الرُسلِ فَهيَ صَحيفَةٌ
فـي الـلَـوحِ وَاِسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراءُ
اِسـمُ الـجَـلالَةِ في بَديعِ حُروفِهِ
أَلِـفٌ هُـنـالِـكَ وَاِسمُ طَهَ الباءُ
يـا خَـيـرَ مَن جاءَ الوُجودَ تَحِيَّةً
مِـن مُرسَلينَ إِلى الهُدى بِكَ جاؤوا
فكل ما يوجد في هذا العالم من خير، هو من فضل البعثة المحمدية، وقال شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال كما ذكر الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي في كلمة ألقاها في “مؤتمر السيرة والسنة النبوية العلمي الثالث” الذي عقدته حكومة قطر عام 1400هـ:
“لقد هبت نفحة من نفحات محمد النبي الأمي عليه الصلاة والسلام، وفاضت قطرة من ماء الحياة من فمه الذي لم يكن ينطق إلا بالوحي، فنشأت جنات وحدائق، وفاحت روائح عبير من صحراء العرب”.
فجعل الله تعالى محمدًا شاهدًا على الناس أجمعين، بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، وجعل سلوكه أقوم سلوك، وتصرفاته أهدى تصرفات، فكانت حياتُه بذلك مثلاً أعلى، وميزانًا صادقًا، توزن بها أعمال البشر، وحركات بني آدم، كما كانت حياتُه ترجمة صادقة لكل أمر إلهي، وقد صدقت أم المؤمنين عائشة في وصف أخلاقه عندما قالت: “كان خُلُقه القرآن”، فإنها صالحة لتنظيم حياة النوع البشري كله، وأنها الدليل الواضح لمن أراد الهداية بصدق، في كل عصر ومصر.
وإن منن الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنسانية كلها كثيرة لا تعد ولا تحُصى، وإن العالم المتحضر مدِينٌ لتعاليمه في ميادين كثيرة، وستستمر مآثره وتأثيرها على مسير العالم، وسيبقى العالم مدِينًا له، وقد بعث في حالة احتضار الإنسانية، ولذلك بقاء هذه الإنسانية أيضًا مدِيْنٌ له.
فإن السيرة النبوية غنية في كل جانب من الجوانب التي يحتاجها الإنسان، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك مثلاً كاملاً لمن يريد أن يقتدي به في كافة شؤون الحياة، كما أن التعمق في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يساعد على التعرُّف على الرصيد الخلقي العظيم الذي تميَّز به الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل البشر، ويتعرَّف على الأسوة الحسنة التي عاش بها في دنيا الناس، فيرى من خلال سيرته مصداق قول حسان بن ثابت له عندما قال:
وَأَحسَن مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني
وَأَجمَل مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ
خُلِقتَ مُبَرَّءًا مِن كُلِّ عَيبٍ
كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ
فإن السيرة النبوية معينٌ ثرٌّ، يروي الغليل، ويشفي العليل، وطودٌ عظيمٌ يؤوي الخائف الضرير، ويثبت الأقدام، ويربط على القلوب المنخلعة، وبحرٌ زخارٌ يؤتي كل من يقترب منه لآلئ ودررًا، يواقيت ومرجانات، وفيها بلسم شاف لسائر الجروح التي يصاب بها المسلمون في كل زمان ومكان، فأعمالُه ووقائعُه تحمل في طياتها توجيهات وإرشادات، ودروسًا وعبًرا، ومنارات نور، تُنِيرُ لأتباعه الدرب في الحياة، وتُمَهِّد لهم الطريق نحو الفوز في معترك الحياة، والانتصار على المحن والابتلاءات، ونيل السعادة والنعمة، والرحمة والغلبة، والعز والشرف، فغزوة الخندق مثلاً تُعَلِّمُنا أن سنة الله الماضية لا نصر إلا بعد شدة، ولا مِنْحَة إلا بعد مِحْنَة، وكلما اقترب النصر زاد البلاء والامتحان.
وقداشتدَّت المحنة في غزة الجريحة، فالبشرى لأهل غزة الذين يعانون من أقسى العدوان، وأشد الظلم، وأنكى الاعتداء، بيد الكيان الصهيوني الغاشم.
ومن مواقف مضيئة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، مشاركتُه في حلف الفضول قبل البعثة، الذي يحمل دروسًا وعبرًا، فمنها كما أشار إلى ذلك الدكتور محمد الصلابي في كتابه حول السيرة النبوية:
“كان حلف الفضول واحة في ظلال الجاهلية، وفيه دلالة بينة على أن شيوع الفساد في نظام أو مجتمع، لا يعني خلوه من أي فضيلة، فمكة مجتمع جاهلي هيمنت عليه عبادة الأوثان، والمظالم، والأخلاق الذميمة، كالظلم والزنا والربا، ومع هذا كان فيه رجال أصحاب نخوة ومروءة، يكرهون الظلم ولا يقرونه، وفي هذا درس عظيم للدعاة في مجتمعاتهم التي لا تحكم الإسلام، أو تحارب الإسلام.
وإن الظلم مرفوض بأي صورة؛ ولو وقع الظلم على أقل الناس، إن الإسلام يحارب الظلم، ويقف بجانب المظلوم، دون النظر إلى لونه ودينه، ووطنه وجنسه”.
فإن مأساة غزة تطالب الحكام والقادة في العالمين العربي والإسلامي والضمير الإنساني بالتحرُّك السريع لعقد “حلف الفضول” من جديد لرد الظلم، ونشر العدل، ونجدة المضطهد، وإنقاذ المقهور، وإعطاء ذي حق حقه، وردع الظالم، وفك الحصار.
وهنا بوادر ومؤشرات في هذا الجانب، منها مؤتمر”غزة مسئولية إسلامية وإنسانية” في اسطنبول، وتحرُّكات الضمير الإنساني الحر، ومظاهرات عارمة في الدول الأوربية، فلابد من التفاعُل الجادِّ مع هذه المبادرات، فهل من مجيب فينقذ النفوس قبل فوات الأوان؟!.