أمراض المجتمع وعلاجها(13)

اسمعي يا مصر (1)
21 أغسطس, 2025
منظومة الأخلاق الرادعة
21 أغسطس, 2025
اسمعي يا مصر (1)
21 أغسطس, 2025
منظومة الأخلاق الرادعة
21 أغسطس, 2025

أمراض المجتمع وعلاجها(13)

فضيلة الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

الفُحش في القول:

الفُحش في القول بات اليوم واحدًا من أخطر الأمراض الاجتماعية التي تتفشّى يومًا بعد يوم، ومما يؤسف له أن وسائل الإعلام الحديثة، وخصوصًا بعض فروعها التي تخاطب الغرائز الشهوانية، تلعب دورًا رئيسيًا في نشر هذا الداء في أوساط الناس، حتى صار يُمارَس دون حياء ولا استنكار، وكأنّه ليس من قبيل الخطأ أو العيب.

لقد سعت الحضارة الغربية، لا سيّما في نسختها المادية المنفلتة، لأن تنشر هذا البلاء في العالم كلّه، فجمّلت الفحش وزيّنت الرذيلة، وقد روجت لثقافة تبيح المجاهرة بكل ما يجرح الحياء ويهين الكرامة، حتى غدت الألسن لا تأبه بما تقول، والأذن لا تنكر ما تسمع.
كان هذا الداء متفشيًا في الجاهلية أيضًا، حيث اعتاد الناس أن يتفاخروا في مجالسهم بذكر النساء الجريئات، ويُسرفوا في الحديث عن مفاتنهنّ ووصف جمالهنّ بلا حياء ولا خجل، بل الأعجب من ذلك، أن ما كان يُرتكب في الخفاء ويُستحيى من إعلانه، صاروا يجاهرون به ويفتخرون بفعله، حتى انقلبت الأخلاق، فصار التستر عيبًا، والمجاهرة فروسية!

فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: “أمَّا بَعْدُ….”، فأقبل على الرجال فقال:

“هَلْ مِنْكُمُ الرَّجُلُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ، فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ، وَأَلْقَى عَلَيْهِ سِتْرَهُ، وَاسْتَتَرَ بِسِتْرِ اللَّهِ؟”
قالوا: نعم، قال: “ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا، فَعَلْتُ كَذَا؟” قال: فسكتوا.

فأقبل على النساء فقال: “هَلْ مِنْكُنَّ مَنْ تُحَدِّثُ؟؟” فسكتن، فجثت فتاة على إحدى ركبتيها، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليرى وجهها ويسمع كلامها، فقالت: “يا رسول الله، إنهم ليتحدثون، وإنهن ليتحدثنه”.

فقال: “هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلُ ذَلِكَ؟ إِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ، مَثَلُ شَيْطَانَةٍ لَقِيَتْ شَيْطَانًا فِي السِّكَّةِ، فَقَضَى مِنْهَا حَاجَتَهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ”.

ثم قال: “أَلَا وَإِنَّ طِيبَ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَوْنُهُ، أَلَا وَإِنَّ طِيبَ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ رِيحُهُ”. (سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب ما يكره من ذكر الرجل……….: 2174)

أما جاهلية العصر الحاضر، فقد مزّقت كل حجاب، وهتكت كل ستر، لقد تسلّلت هذه الآفة إلى البيوت من أوسع أبوابها، عبر وسائل الاتصال الحديثة، فصار الإنترنت والهواتف الذكية وسائط لنقل الفحش ونشر الرذيلة، لا تفرّق بين صغير وكبير، ولا بين عامة وخاصة. كان المنكر والفحشاء في السابق يُطلب في الخفاء، ويُسعى إليه في الأماكن المعزولة، أما اليوم فقد غدا في متناول اليد، يراه المرء ويريه، يسمعه ويسمعه، بلا رقيب ولا وازع.

فما كان يُتداول بالأمس في مجالس الشباب على استحياء، من سرد مشاهد الأفلام وقصص الانحراف، صار اليوم يُعرض بالصوت والصورة على الشاشات الصغيرة التي لا تفارق الأيدي، فاندلعت بذلك موجة من الفحش عارمة، تهدد الأمن الأخلاقي للمجتمع، وتغرق النفوس في مستنقع الرذيلة إن لم تتدارك بالتقوى والعفاف.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [سورة النور، الآية 19].

من طبيعة الدين أنه يربّي على الحياء، ويهذّب الألفاظ كما يهذّب الأفعال، ولهذا كان نهجه في التعبير عن العلاقة بين الرجل والمرأة قائمًا على الكناية والإشارة الرقيقة حفظًا للحياء، وتربيةً للنفس. نعم، إن اقتضت الحاجة الفقهية أو الضرورة التعليمية التصريح في مواضع محددة، فقد فعل ذلك الشرع بضوابطه واحترازه.

وقد وصف سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بأنه كان أشدّ الناس حياءً، كما جاء في الحديث: “كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرَفناه في وجهه” (صحيح البخاري، كتاب المناقب، صفة النبي: 6102)، فهو أدب النبوّة وسمة أهل الإيمان.

ومن مظاهر الفحش في القول ما يظهر عند الغضب حين يفقد الإنسان زمام نفسه فينطلق لسانه بما لا يليق من سبّ وشتم وكلام بذيء، وقد ورد في الحديث الشريف: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سِبابُ المسلمِ فُسوقٌ، وقتالُهُ كُفرٌ” (صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: خوف المؤمن……..: 48)

أي أن شتم المسلم وسبه خروج عن طاعة الله وفسوق عن الأدب الإيماني. لكن بعض الناس حين يستدرجون إلى الغضب لا يقفون عند حد بل يتجاوزونه إلى التعدي على الأعراض وسب الوالدين وفضح العيوب المستورة ورفع الصوت بالصياح والصراخ وكأنهم لا يوقرون حرمة الإنسان ولا يراعون أدب الإسلام.

وقد نبَّه القرآن الكريم إلى قُبح هذا السلوك، فقال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (النساء: 148)

لا شك ان المظلوم له الحق في أن يعبر عن مظلمته، ويجهر بشكايته، ليصل صوته الى من يرفع عنه الظلم، وهذا مما اذن الله به رحمة بالضعفاء والمقهورين. فان البذاءة تبغض المرء الى الناس، وتحرمه ثمار العيش الكريم في المجتمع، وتقطع عنه أسباب المودة والتقدير.

[تعريب: سعد مبين الحق الندوي]