حضارة إبراهيمية محمدية

أمراض المجتمع وعلاجها (3)
23 سبتمبر, 2024
رحمة للعالمين
4 نوفمبر, 2024

حضارة إبراهيمية محمدية

العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي

إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لم يدعوا إلى عقيدة وشريعة فحسب، ولم يحملوا ديناً جديداً ـ هو الإسلام ـ فحسب، بل كانوا مؤسسى حضارة ومدنية وعشرة واجتماع وأسلوب من الحياة جديد خاص، جدير بأن يسمى الحضارة الربانية، ولهذه الحضارة أصول ودعائم وعلامات وشعائر، تمتاز بها عن الحضارات الأخرى، الحضارات التي تسمى الحضارات الجاهلية، امتيازاً واضحاً امتيازاً في الأساس، وفي الروح، وفي الأشكال والتفاصيل.

وكان إبراهيم الخليل الحنيف صلى الله عليه وسلم إمام هذه الحضارة الحنيفية المؤسسة على توحيد الله تعالى والإيمان به وذكره، المؤسسة على متابعة الفطرة السليمة والقلب السليم، المؤسسة على الحياء والأدب مع الله، والإنابة والرحمة على بني النوع الإنساني، ورقة العاطفة، وقد سرت أخلاقه في هذه المدنية ومنهج الحياة:”إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ” “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ”، وكان إبراهيم ولا يزال مؤسس هذه الحضارة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حفيده مجدد هذه الحضارة ومتممها، وهو الذي بعث فيها الروح وأفاض عليها الخلود وأرسى قواعدها، وشد بنيانها وجعلها خالدة باقية عالمية.

إن هذه الحضارة الإبراهيمية المحمدية، لا تعرف الوثنية والشرك ولا تسمح به في لون من الألوان، في أي مكان، وزمان، فكان أعظم دعاء إبراهيم وأكبر همه: “وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأْصْنَامَ” وكان أكبر وصيته ودعوته للأمم والأفراد جميعاً: “فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأْوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ”.

إنها لا تعرف التهالك على الشهوات، والتكالب على حطام الدنيا، والتناحر على جيف المادة، والتقاتل في سبيل الحكومات والمناصب، إنها دعوة لم تزل عقيدتها: “تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ”.

إنها حضارة لا تعرف الفصل بين الإنسان والإنسان، والتمييز بين الألوان والأوطان، “فالناس كلهم من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى” “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم” وقد قال خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم:”ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية”، وقال لمن هتف بالأنصار ومن هتف بالمهاجرين:”دعوها فإنها منتنة”.

إنها حضارة تعرف في العقيدة بالتوحيد، وفي الاجتماع باحترام الإنسانية والمساواة بين أفرادها، وفي دائرة الأخلاق والمنهج بتقوى الله والحياء والتواضع، وفي ميدان الكفاح بالسعي للآخرة والجهاد لله، وفي ساحة الحرب بالرحمة والعاطفة الإنسانية، وفي أنواع الحكومات بترجيح جانب الهداية على جانب الجباية، والخدمة على الاستخدام، تعرف في التاريخ بخدمة الإنسانية المخلصة، وإنقاذها من براثن الجاهلية، والدعوات المضلة الطاغية وفي العالم بآثارها الزاهرة الزاهية وخيراتها المنتشرة الباقية.

إنها حضارة عجنت مع اسم الله ومراقبته، وصبغت بضبغة الله، وقامت على أساس الإيمان فلا يمكن تجريدها عن الطابع الديني واللون الرباني والروح الإيماني.

×