جبهة جديدة للهجوم على الإسلام
14 أغسطس, 2024مفهوم العبادة في الأذهان اليوم
4 نوفمبر, 2024الرحمة المهداة
جعفر مسعود الحسني الندوي
نحن الآن في شهر يتميَّز عن الشهور الأخرى بمولد النبي صلى الله عليه وسلم كما يتميَّز شهر رمضان المبارك بنزول كتاب الله الذي” لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ “(فصلت:42) وكل من يقرأ القرآن الكريم يعرف أن الله عزوجل مدح في كتابه أحب الرسل اليه قائلا: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ “(القلم:4) فاختار له صفة “حسن الخلق” من بين صفاته الحميدة المختلفة ليصفه بها في كتابه، وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن أخلاق زوجها الحبيب: “ألا تقرأون القرآن، كان خلقه القرآن” لأنه صاغ نفسه بصبغة القرآن، وطبقه في حياته، وعمل بكل ما جاء فيه.
ومما يدل علي أهمية الأخلاق في حياة الإنسان ودوره في بناء المجتمع البشري المثالي، وتكوين الأسر والعائلات التي تتمتع بالأخوة والوحدة والتضامن والتعاطف والتراحم والعيش كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص، ما قاله النبي صلي الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وقال: “أكمل المومنين إيمانا أحسنهم خلقًا”. وقال: “إن من أعظم ما يدخل الناس الجنة، تقوي الله، وحسن الخلق”، وعرَّف العلماء حسن الخلق بكف الأذي، وبذل الندي، وطلاقة الوجه، وقال البعض إن الذي يصل من قطعه ويعطي من منعه ويعفو عمن ظلمه، ويبتسم لمن يعبس له، هو الذي يُعْتبر صاحب خلق حسن.
هذا الشهر الذي نحتفل فيه بمولد النبي صلي الله عليه وسلم الذي لم يرسل إلا رحمة للعالمين، يذكرنا بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي وصف بالرحمة والرأفة: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” (آل عمران:159) و” لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ “(التوبة: 128).
فالرفق واللين والعطف والكرم والحنان والشفقة والرحمة والعفو والصبر والحلم والجود والسماحة، هي أمور تتجلي في حياة النبي صلي الله عليه وسلم، وتدعو كل من يحبه، ويريد أن يتبعه إلي أن يتبناها ويطبقها في حياته، ويتعامل بها مع الناس إذا كان صادقًا في حبه لنبيه.
نحن المسلمين نحتفل بمولد النبي صلي الله عليه وسلم، وبتزيين الشوارع وإضاءتها بالمصابيح، وإطلاق المواكب، ورفع الهتافات، ووضع اللافتات المكتوب عليها اسم “محمد” بغاية من الدقة والجمال وبحماس بالغ ودافع ديني، حبًّا للنبي، وامتنانًا به رجاء أن ننال به رضا الله والمثوبة عنده، رغم أنه لم يأمرنا به ولم يدعنا إليه ولم يطلبه منا كأتباعه والمنتسبين إليه.
إن نبينا محمدًا صلي الله عليه وسلم كان يعرف قبل أن ينزل عليه الوحي، بالصدق والأمانة، ويشهد بذلك ألد أعدائه، وأشد خصومه، لأنهم جربوه حين تعاملوا معه، وعرفوه عن كثب، فرأوا فيه كل خير، وكانوا ينادونه بـ”الصادق الأمين” رغم ما في قلوبهم من حقد وعداء وعناد وكراهية له، لطعنه في آلهتهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة.
إن حياة النبي كانت تطبيقًا عمليًا لكل حكم من أحكام القرآن الذي هو أساس الشريعة التي بلغت الذروة في الكمال والإتقان والإبداع ويكفي في وصف هذا التشريع الحكيم ما ذكره ربنا في أخريات ما أنزله في كتابه: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ” (المائدة:3) فالتشريع الإسلامي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبيًّن حكمها وطريقة التعامل معها ” وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ “(النحل:89)
نرى نبينا الكريم صلي الله عليه وسلم قد تعامل مع كل الأمور، وواجهها في حياته بطريقة عرفتها البشرية لأول مرة في التاريخ، نرى في كل جانب من جوانب حياته العنصر الأخلاقي بارزًا وجليًا يحببه إلي النفوس ويمكنه في القلوب، وهذا العنصر الأخلاقي لعب دورًا هامًا في نشر دعوته بهذه السرعة الغريبة، وتحويل من يتعطش إلي دمائه، إلي من يضحي بنفسه لصيانته من أي ضرر يصيبه حتي الشوكة التي تصيبه في رجله، وهذه الآية الكريمة تشير إلي ذلك وتدعو إلي التحلي بالأخلاق الحميدة النبوية وما فيها من تأثير علي النفوس والقلوب والأفئدة، فقال الله عزوجل: “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ،وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” (فصلت:33–35) وقال: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ،إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ” (النحل:125–128).