“الرائد” تدخل عامها السادس والستين من عمرها

الحاجة إلى فهم الوضع
18 يوليو, 2024
جبهة جديدة للهجوم على الإسلام
14 أغسطس, 2024

“الرائد” تدخل عامها السادس والستين من عمرها

جعفر مسعود الحسني الندوي

تدخل صحيفتنا “الرائد” بهذين العددين العام السادس والستين من عمرها بعد ما أنهت العام الخامس والستين، فنحمد الله سبحانه وتعالى على ذلك، ونشكره على ما أتاح لنا من نعمة الخدمة للكلمة الإسلامية،الكلمة الإنسانية الطيبة التي هي أساس كل خير في العالم، وكل فضيلة في المجتمعات البشرية، وهي كلمة نزل أصلها من فوق السماوات على أنبياء الله صلى الله عليهم وسلم، وفي آخرهم خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم.

أرى من المناسب أن أنقل بمناسبة صدور هذين العددين الجديدين ما كتبه رئيس تحريرها سابقًا الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله في العدد الأول من المجلد الثاني والخمسين للرائد (1-2/يوليو 2010م) فيقول:

” في العهد الذي صدرت فيه صحيفة “الرائد” كان العالم موزَّعًا على كتلتين متوازيتين في القوة والفكر، وقد نشأت هاتان الكتلتان وتقوَّتا، وانتشر نفوذهما في مختلف أرجاء العالم بعد قيام الثورة الاشتراكية في روسيا، وانضمام الدول المتصلة بها، ثم قبلت هذه الفكرة دول أخرى في آسيا، ونشأت بذلك قوة عالمية كبرى، وكانت تقابل هذه القوة الدول الأوربية الغربية الرأسمالية، ذات الخلفية الاستعمارية، وبعد نيل الدول الخاضعة للاستعمار الحرية في الأربعينيات والخمسينيات، نشأت قوة ثالثة متكافئة للدول الضعيفة المضطهدة، ونالت هذه الدول التي كانت تحمل الكراهية للدول الاستعمارية عطف الكتلة التي لم يكن لها تاريخ الاستعمار، بل كانت تدعى حماية الطبقة الكادحة، والدول المضطهدة، وبوجود هذه الكتل الثلاث كان العالم الذي نبذ العنف لمعاناته وخسائره في الحرب العالمية وهجر استعمال القوة لحل المشاكل، موزعاً على ثلاث معسكرات فكرية، وكانت الأهداف المنشودة التي تدعيها هذه المعسكرات الثلاث: تجنب الحرب، وتخفيف حدة التوتر، وحل المشاكل بالمفاوضات، وكان ذلك شعار مؤتمر باندونج الذي انعقد في إندونيسيا، واتخذ فيه قرار التعايش السلمي، وصف هذا العصر الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية بعصر الحرب الباردة، كانت ميزته الصراع الفكري، وقد خلا هذا العصر من استعمال العنف، أو اللجوء إلى القوة، لحل المشاكل سوى حوادث منفصلة كانت إقليمية أو محدودة في مناطق خاصة.

في هذا العصر حدثت ثورات عسكرية في بلدان كثيرة، كانت بيضاء في بعض المناطق، وحمراء في مناطق أخرى، ولكن الحرب الحقيقية في ذلك العصر كانت حرب الكلام، والأيديولوجيا والإعلام، والكتب، والنشرات، وتأثر بذلك الأدب وخاصة القصة بهذا الصراع الفكري، أو الأيديولوجي، فأسهم حملة القلم في حملة تلقيح الأفكار، وصدرت كتب تحمل أفكارأً ونظريات، وتراجم شخصيات من أصحاب النظريات بأثمان زهيدة، كما كانت بعض الدوائر تسعى إلى استنزاف المنشورات المضادة لها، وكانت الإذاعة والصحافة تسهمان في هذه الحملة الفكرية بصفة خاصة، ولذلك كانت بعض الحكومات المستبدة تتخذ إجراءات لمنع القراء أو المستمعين من التأثر بما تنشر وسائل الإعلام المعادية لها، وكان من أولويات الدول الاشتراكية تأميم الإعلام، وتنظير التعليم والتربية وسد إمكانيات التوصل إلى معرفة لا تتفق معها.

وقد تأثرت الدول العربية خاصة من هذا الصراع الفكري، فقد تأثرت أولاً بالغزو الفكري الأوربي المسيحي الاستعماري، ثم بالغزو الاشتراكي الذي امتد بعد انحياز مصر إلى الكتلة الاشتراكية إثر العدوان الثلاثي على مصر.

قبلت هذه المنطقة أولاً الحضارة الغربية المادية التي كانت تتنافى مع قيم الحضارة الإسلامية، ثم قبلت الاشتراكية، فكانت وطأتها أشد من الحضارة الغربية، لأن الاشتراكية اعتبرت الدين، والقيم الخلقية، والشعور الإنساني ألد أعدائها، فكانت النتيجة أن العلماء والدعاة والمصلحين كانوا في قفص الاتهام، ونال عدد كثير منهم عقوبة انتمائهم إلى الحق، والإصلاح، وكان صوتهم مكبوتاً وأفواههم ملجمة، وفي مثل هذه الظروف القاسية حاولت الصحف والمجلات التي تقول الحق في وجه الظالم، رفع قضية المظلومين أو نقل ما يحدث وراء الزنزانات إلى القراء، فكانت تعاملها الحكومات المستبدة معاملة قاسية فتصدر ثم تحتجب.

شهدت الستينيات هذا الوضع المخيف للكبت والقمع والدعاية المزورة إلى حد الاستهانة بالقيم، والاستهزاء بالعقيدة السليمة ومظاهر الدين، وفرض الحظر في بعض البلدان العربية على النشرات الدينية، والكتب الإسلامية، وأطلقت الحرية للأقلام البذيئة للكتابة في أمور الدين بسخافة بعيدين عن الثقافة.

في مثل هذه الظروف فكر أصحاب الغيرة الإسلامية والأخوة الإسلامية في الهند التي كانت بعيدة عن هذا المسرح للقمع والكبت لكونها بلداً ديموقراطيا أن يكون لهم إسهام في إبلاغ الحق، وحماية المظلوم ولو بالقلم، وتخفيف معاناتهم ولكن بدون محاباة، أو انحياز، أو مجافاة، كان شعار هذه المهمة لا”شرقية ولا غربية مع الحق حيث يكون” وما قالته العرب “رائد القوم لا يكذب أهله”.

لقد صدرت “الرائد” بهذا الشعار في عام 1959م، وكان العالم العربي يمر بمسلسل الثورات، وتبدل النظريات والفلسفات، فلم تكن موالية للأمريكان كما كانت بعض الدوائر تتهمها، ولا كانت مع الروس كما اتهمتها بعض الدول، بل كانت ترفع صوت المظلومين حيث كانوا، وسارت على خط الوسطية التي خطها الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، وكان الاعتدال الفكري والعملي ميزته التي تميزه عن الزعماء المسلمين الآخرين، وقد كان موقفه إزاء الحكام وإزاء الأحداث يتغير حسب الاتجاهات والنزعات، وحسب المصلحة الإسلامية، وكان في نقده وفي تأييده متحفظاً مؤدباً غاية الأدب حتى مع ألد الأعداء، كما كان في خطابه أمام القادة والحكام، أو في رسائله الموجهة إليهم، وسارت “الرائد” التي أصدرها فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الرئيس العام لندوة العلماء لكناؤ (سابقًا) الذي تربى في حضنه ونشأ في رعايته، على هذا المنهج السليم.

وقد سار على هذا المنهج منهج الاعتدال والوسطية الكاتبان الأستاذ محمد الحسني رحمه الله في أضوائه، والدكتور سعيد الأعظمي الندوي في كلماته.

وقد مضت الآن وهي سائرة على نفس المنهج من عمرها إحدى وخمسون سنة، لقد عملت “الرائد” كمدرسة تربوية لتنشئة الكفاءات في الشباب والباحثين وتوعيتهم بالقضايا المعاصرة، والكتابة فيها، وقد وفقت ـ والحمد لله على ذلك ـ في هذا المضمار أيضًا، فنشأت كفاءات وأقلام واعدة،وقد أضيفت في السنين الأخيرة عناوين جديدة، منها “ركن الأطفال” الذي يشرف عليه الكاتبان الشابان جعفر مسعود الحسني الندوي ومحمد وثيق الندوي، ونالت هذه الصفحة قبولاً عاماً،كما انضم إلى هيئة التحرير الأستاذ عبد الله محمد الحسني الندوي النجل الأكبر للمرحوم محمد الحسني.

لقد انتقل اليوم الصراع الفكري إلى الصراع المسلح، وحدث هذا التحول بعد الغزو السوفياتي على أفغانستان والحرب لإخلاء أفغانستان من الغزاة التي دعمها المعسكر الغربي الاستعماري، وأعقبت هذه الحرب الثورة الإيرانية والحرب الإيرانية العراقية وغزو العراق للكويت، والذي سبب في وصول القوات الأجنبية إلى الآراضي العربية، وردود الفعل لمرابطة القوات الأجنبية وتعددت المواقف إزاء هذا الحضور الأجنبي العسكري في المناطق العربية وبدأت حركة لإجلاء هذه القوات.

ثم دبرت مؤامرة للتفجيرات على السفارات الأمريكية وأخيرًا حادثة التفجيرات في المدن الأمريكية التي تحولت إلى الحرب على الحركات الإسلامية، وكان أفغانستان الهدف الأول ثم العراق، وأدت الحرب المعلنة على البلدين إلى خسائر لا تعوض في الأرواح والممتلكات، والأمن العالمي، وفي وسط هذه الحرب الشعواء على مناطق متعددة من العالم الإسلامي عاشت إسرائيل في ظل الحماية والوقاية الكاملة.

إن هذه الأحداث الدامية غيَّرت مجرى العالم، فانتقل العالم كله إلى مسرح الصراع المسلح لمحاولة القوة الكبرى التي تسيطر على العالم اليوم في غياب القوتين السالفتين، وقد تحول العالم كله إلى مستعمرة تخدم مصالحها، بعنوان العولمة، أوالنظام العالمي الجديد بثقافة واحدة، وبعقائد واحدة، وتبذل جهود لتكميم الأفواه بفرض إعلام واحد، والاستيلاء على نظام التعليم والتربية، وتستخدم في هذا السبيل القوة بالإضافة إلى الإغراء المادي وتجفيف منابع فكر آخر، أو تصوُّر آخر للحياة، فحل الإسلام ومظاهره والناشطون له محل الشيوعية والناشطين لها، ودخل في قفص الاتهام، وأصبح الخطر الأكبر في عيون قادة العالم، وشنت حرب على سائر الوسائل والحركات التي تنتسب إلى الإسلام، وتحدث بهذه الحرب الجديدة حوادث العنف، وتجري حملات الكراهية والعداء، فتقع حوادث دامية في مختلف أرجاء العالم، فتغيَّر الوضع من صراع النظريات إلى صراع مسلح بين مختلف عناصر المجتمع الإنساني الذي كان يؤمن بالتعايش السلمي، ويسعى إلى تخفيف التوتر ونزع السلاح.

إن “الرائد” لم تكن في الحالة الأولى تؤيد العنف، ولا تؤيد العنف بأي حال من الأحوال من أي جهة كان، بل تدعو إلى الإفهام والتفهيم باللقاء والحوار، وتبادل وجهات النظر، وإثارة الضمير الإنساني، وقد اختار هذا الطريق الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي في حملته في رسالة الإنسانية، وعبّر عن فكرته كذلك في خطابه الموجه إلى العاملين في سبيل العمل الإسلامي، وهذا هو طريق الوسطية، وهو الحل في العصر الحاضر كما كان الحل في العصر الماضي.

لقد جرّب الأعداء والأصدقاء وسيلة العنف لحل المسائل فانتشر العنف في العالم كله وصارت حياة الإنسان عرضة للخطر، وقد آن الأوان أن يفكروا في طريق العودة إلى الأمن والسلامة وخلق جو التضامن والحرية “.

منذ ذلك اليوم تسير هذه الصحيفة على الخط الذي رسمه لها سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، ثم من خلفه من فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله وفضيلة الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله، ولا تزال ترفع صوت الحق، وتدافع عن المضطهدين، وتدعو إلى ترسيخ الصلة بين أبناء الأمة الإسلامية في الشرق والغرب.

×