التكافل والإغاثة في السنة المطهرة
4 أبريل, 2023انهيار المعيار الأمريكي
19 سبتمبر, 2023المجتمع الإسلامي الواقعي يجذب النفوس
الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي
إن الدين الإسلامي هو دين إنسانية واعتدال، يطلب من أتباعه أن يبقوا بشراً، ويتجنبوا الرذيلة والطغيان، فليس عليهم أن يصبحوا ملائكة لا يعرفون ما هو الجوع، وما هو المرض، ولا لهم أن يبقوا في أخلاق بهيمية وأهواء جامحة، فيصيروا مثل الحيوانات الهاملة التي لا تعرف إلا الأكل وإشباع رغباتها الحيوانية، فإن الاعتدال هي السمة الكبيرة لهذا الدين، والتوسط هي الميزة الكبرى له، ولقد دل عليه قول رسول اللهr عندما سمع أن صحابياً من أصحابه قرر أن يعبد الله تعالى طول الليل ولا ينام، وقرر صحابي آخر أن يصوم كل يوم طول حياته، وقرر الثالث ألا يتزوج ولا يحقق رغبته في ذلك، فقال: لا تفعلوا فإني أكثر عبادة منكم، ولكني أعبد الله في الليل، وأنام كذلك، وأصوم وأفطر، وأتزوج كذلك: عن أنس رضي الله عنه قال: “جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلي الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفرله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إنني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني، (البخاري: 5063 ومسلم: 1401).
هذا من جهة، ومن جهة أخرى تدل أخباره أنه قال مرة، وكان وجد طعاماً حسب رغبته مع بعض أصحابه: “هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ” مشيراً إلى الآية القرآنية )ثم لتسألن يومئذ عن النعيم( (التكاثر:8) (مسلم في كتاب الأشربة، رقم: 2038، والترمذي في الزهد).
وكلما حاد الإنسان عن هذا الاعتدال والتوسط وقع في الفساد، فقد وقعت أوربا في قديمها في الرهبانية العاتية، فقمع الناس فيها رغباتهم الإنسانية الفطرية المباحة طلباً للرقي الروحاني، ولكنه لم يترق في العبودية والقداسة حتى يصل إلى درجة الملائكة ولم يبق بشراً يجوع ويأكل، ويقع في القذارة فيغسل، ويتطهر، ويمرض فيستشفى ويعالج.
أنه يجب أن يكون الإنسان بشراً، ولكن بالصلاح والتقوى، وتملي عليه الإنسانية أن يعرف ضعفه البشري، وحاجته، وراحته، وآلامه في الدنيا، ويعرف مسئولية أواصر القرابة والجوار، ويشعر بآلام نفسه البشرية، وبآلام غيره ممن يعاشرهم في حياته، هذا في ناحية، وفي ناحية أخرى يطلب السعادة والخير في الآخرة، يطلب رضا ربه بالأعمال الحسنة، فإن طلبه لخير الآخرة يحفظه من الفساد والطغيان، وإن طلبه لما يحتاجه لحياته في الدنيا يحفظه من أن يقع في رهبانية مهلكة.
لقد وقعت أوربا قديماً في رهبانية شديدة، وحرمت نفسها من خيرات الحياة الدنيا، ثم تمردت أخيراً على طلب الخير في الآخرة، فوقعت في مادية رعناء، وفي مساقط الرغبات الجامحة، فمرت أوربا من تجربتين متعارضتين، وهي الآن بحاجة إلى تجربة التوسط والاعتدال، ولا يمكن أن تحصل لها هذه التجربة إلا في الإسلام، ولكن كيف تحصل لها هذه التجربة، وأين تجدها، وتطلع عليها، فإنما المسئولية في ذلك على المسملين أن يتقدموا إلى أوربا بتعريف الإسلام، وبيان خيراته، وحسناته على الإنسانية، ولا يمكن للمسلمين ذلك إلا إذا كانوا هم أنفسهم متحلين بالأخلاق الإسلامية الصحيحة بدون أن تكون فيهم مغالاة في جانب، وتقصير في جانب آخر، يجب أن يتقدموا إلى غير المسلمين بوجه إنساني فاضل، وحياة إنسانية كريمة، متمثلين لأخلاق الرسول r وصحابته الكرام، كيف كانوا يعاملون الناس، وكيف كانوا يدعونهم إلى الخير والهدى، كيف كانوا يغضبون عند ما كان الأمر يستدعى الغضب، وكيف كانوا يتلطفون عندما كان الأمر يستدعى اللتلطف.
ولكن الدين الإسلامي الذي يقدمه بعضنا إليه اليوم هو دين الجدل والضرب أكثر من أن يكون دين الفضيلة والبر، وما دمنا نظهر للغرب وجه العنف والجدل للإسلام، فلن نجد من الغرب رداً إلا بالإعراض والمقت.
إنه يحب أن نعرض الإسلام على الغرب كدين منقذ من الويلات الخلقية والاجتماعية للحياة المعاصرة، التي ضجت نفوس الغربيين عنها، وأرادوا الهروب منها، واللجوء، إلى حلول ظاهرة تبدو لأقطار الغرب في الشرق والغرب، ففي هذه الحالة إذا لم يظهر أمام الغرب وجه الإسلام الصافي المواسي الرفيق، فلن يجذب الإسلام نفوسهم وقلوبهم، وهم سيستمرون في اللجوء إلى كل ملجأ ومغارة يظنون فيها شفاء لأسقامهم، مثل الرهبانية البرهمية، أو البويهمية الهاملة، ونجد لها أمثلة كثيرة في كل مكان، وتقع المسئولية على الدعاة المسلمين لأنهم لا يختارون الطريقة الصحيحة اللائقة للدعوة إلى الإسلام، مع أن مسئولية الدعوة خاصة بهم، لقوله سبحانه وتعالى )كنتم خير أمة للناس أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله ( (آل عمران: 110).
لقد انقسم العاملون للإسلام اليوم إلى أقسام، فمنهم من يتزعم إعطاء فكرة الضرب والحرب للإسلام، ولا يكتفي في ذلك بالإظهار العملي وحده، بل يجعله من أساسيات الإسلام، يفعل ذلك بدون أن يرى سيرة الرسول عليه السلام، ومنهاجه في ذلك، فلقد احترز r من قتل المنافقين مع علمه بأنهم أشد عداء من الكفار، وذلك لئلا يقال “أن محمداً يقتل أصحابه”(صحيح البخاري، كتاب المناقب، رقم: 3518، وصحيح مسلم، أبواب البر، رقم: 6583) وبذلك كان يصون الإسلام من شهرة غير حسنة، وكان يقبل من الرجل قوله لا إله إلا الله، فقد قال في حالة مخالفة لذلك: “أفلا شققت عن قلبه” (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، رقم: 158).
وقسم من العاملين للإسلام يعكفون على شرح الإسلام نظرياً وحده، ويعكفون على تنظير الإسلام بشكل يجعله شبيهاً بالنظريات الغربية في الحياة، مع أن الغربيين أتخموا من النظريات، وكادوا يضربونها عرض الحائط، لأنها لا تسعفهم في إدخال الراحة والطمأنينة إلى قلوبهم، ولذلك يهجرون حياة بنيت على هذه النظريات، وقد يلجأون إلى الحياة الهاملة، تاركين كل شيء حتى حاجيات الحياة، لقد تقدم الغرب وبلغ أوج رقيه في النظم السياسية والاقتصادية والقوة العسكرية، ووسائل المعيشة، وإزدهار المدنية، وحاول بكل ذلك حل مشكلاته الإنسانية، وإزالة همومه النفسية، ولكنه لم يعد من محاولته هذه بطائل، وأصبح شباب الغرب يهيمون في كل مجال يظنون فيه حلاً لعقدهم، وذلك لأن الاضطراب الخلقي والفراغ النفسي الذي يعاني منه أبناء الغرب اليوم، إنما هو نتيجة حضارتهم هذه المتحررة من الالتزامات الخلقية والدينية، وهي سبب اضطراب ميزان السعادة النفسية لحياتهم، وهو سبب مرضهم وسقامهم، ولا ينفع فيه إلا العودة إلى تعاليم الأنبياء وخاصة تعاليم خاتم الرسل محمد r الذي دعا إلى تحقيق الصلة بالخالق، وإلى الاعتدال في الاستفادة بوسائل الراحة، فلا تكالب على اللذات، ولا الاستمتاع بكل وسائل المتعة والراحة، ولاحاجة إلى اختيار الرهبانية، والتخلي من حاجيات الحياة فقد قال الله تعالى: “قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة “(الأعراف:32)، إنما النظر الصحيح إلى الحياة الدنيا هو أنه نعيم محدود، وزائل، وأنه متاع الغرور فلا يوحذ إلا بالاعتدال ولا يربط به القلب حتى يصعب تركه.
فالغرب لا يرغب اليوم إلى نظام اقتصادي جديد، بدلاً من نظامه الاقتصادي الذي توصل إليه، ولا إلى نظام سياسي جديد، بدلاً من نظامه السياسي الذي اختاره، لأنه جرب أنواعاً راقية من الأنظمة، ووصل إلى أقصى ما بلغ به علمه ودراسته وفهمه، فهو غير راغب إلى مزيد جديد منها، لأنه لا يجد حلاً لمشاكله فيها، إنما يرغب الغرب إلى السكينة القلبية والراحة النفسية التي لا يتكفل بها نظامه للاقتصاد، ونظامه للسياسة لديه، إنما يتكفل بها تلك الفضائل والآداب السماوية التي دلّ عليها وهدى إليها رسل الله سبحانه وتعالى وخاتمهم محمد بن عبد اللهr، وهي التي تعوز بيئات العالم الإنساني اليوم.
وعلى الداعي إلى الفضيلة والحق أن تكون حياته مثالاً للمنهج المعتدل الجامع للاستفادة من وسائل الحياة، واتخاذ نظرة صحيحة لتقييم هذه الوسائل، وذلك يحصل بالأمثلة العملية أكثر من الشرح العلمي مع أن الشرح العلمي له مكانة لا يستهان بها في دعم هذه النظرة ومساندتها.
فهل يسعنا أن نعرض الإسلام على الناس بطريقة موافقة لسنة رسول الله r، وسنة صحابته الأولين، فليس في غيرهما علاج.