الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي وحلمه
9 سبتمبر, 2023ما أعظم الحرمان وما أفدح الخسران…..!
9 سبتمبر, 2023فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي كما يراه كبار علماء عصره
أ. د. مجيب الرحمن
جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي
ثمة شخصيات تظهر في سماء العلم والأدب والفكر الإنساني، وتلمع كالنجوم، ويزداد لمعانها بمرور الزمان، وتقادم العصر، لأن نفعهم للإنسانية يكون كالغيث الذي يحيي الحقول الميتة، “فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ” (سورة الرعد، 17)، والعبرة في العلم لا في كثرته؛ بل في نفعه، هذا ما رأيناه في حياة وسيرة فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الذي قضى حياة عامرة بخدمة العلم والأدب والفكر الإسلامي الخالص، وفلاح الإنسانية، واستطاع أن يترك وراءه تراثًا قيمًا يحمل بصمة “رابعية” مميزة في مجالات عديدة؛ التعليم والتربية في الصفوف الدراسية عقودًا طويلة، والتصنيف والتأليف والترجمة، وتحرير المجلات العلمية، وتوجيه المسلمين الهنود في شؤونهم الدينية والاجتماعية، وإدارة إحدى أبرز وأشهر مؤسسات التعليم الديني في شبه القارة الهندية دار العلوم التابعة لندوة العلماء، وقيادته لعدد من المؤسسات الدولية العلمية والأدبية والفكرية، وغيرها من المجالات التي يحيرنا تنوعها وحجمها ومدى تأثير شخصيته الفذة فيها جميعا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده الصالحين، وفضل الله لا ينزل إلا على من يخلص النية لله ليُرضِيَ الله بأعماله، لا يبغى منها جزاءً ولا شكورًا.
عمّت موجة عارمة من مشاعر الحزن العميق على وفاته في الهند والعالم العربي، وانهالت رسائل تعزية ومؤاساة حارة من شتى الجهات التي رأت في وفاته نهاية عهد حَسنَوِيٍّ ذهبي بدءاً من العلامة أبي الحسن على الحسني الندوي مروراً بالشيخ محمد الحسني وعبد الله الحسني والشيخ واضح رشيد الندوي رحمهم الله جميعا الذين تربّى جميعهم في مدرسة العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي الفكرية، ونهلوا من منهله العلمي والفكري الصافي والعذب، فحذوا حذوه في أسلوب الكتابة العربية، ونهجوا منهجه في الفكر واعتماد الوسطية، فكانوا بذلك خير ممثلين لمدرسة أبي الحسن علي الحسني الندوي الفكرية والأدبية، وكان أبرزهم فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله.
ولقد استطاع شيخنا أن يتمتع بمصداقية كبيرة وشعبية واسعة في أوساط العلم والأدب في الهند بلا منازع، فكان من أكثر الشخصيات العلمية في الهند قبولاً لدى كل المذاهب والجماعات الإسلامية بعد العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي، وقد شهد بعلمه وفضله كبار علماء عصره، كتب العلامة أبو الحسني علي الحسني الندوي في وصفه: “لا يحمل عزيزي المولوي محمد الرابع الحسني الندوي المزاج العلمي والفكري والديني لندوة العلماء ومميزاتها وخصائصها الفكرية فحسب، وإنما هو ترجمان وداعية لها وصورة عملية لها”، وهذه شهادة كبيرة من إمام المسلمين في الهند في القرن العشرين، شهادة مبنية على حق، لا على حسب ولا نسب وقرابة وانتماء، فقد عرفنا من سماحته قول الحق ولا غير.
وكتب الشيخ عبد الله عباس الندوي في وصف شيخنا محمد الرابع الحسني الندوي “الأستاذ الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي صورة حقيقة لسماحة الشيخ أبي الحسن الندوي، حتى تماثلت صورته معه، فهو ابن اخت له، وهما يمثلان جسدين لدم واحد، لقد منح الله أبا الحسن خلفاً هو يمثل صورة حقيقية له بلا منازع”.
وكتب الشيخ محمد أرشد المدني حفظه الله: “كان سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله شخصية محترمة وموقرة جدا لا لأسرته فحسب، وإنما للملة الإسلامية جمعاء، وكان وحيد زمانه في العلم والفضل والصلاح والتقوى، والنبل والكرم، لقد أسدى خدمات استثنائية مبهرة إلى ندوة العلماء والأمة الإسلامية أيضا، وإن قيادته للمسلمين الهنود بوصفه رئيساً لمجلس الأحوال الشخصية الهندية تمثل حلقة ذهبية”.
وقال سماحة الشيخ المفتي محمد تقي عثماني حفظه الله بعد وفاته: “لقد قدر الله أن تسير ندوة العلماء على خطى ومنهج سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي قدس الله سره بكل وسطية واعتدال وحكمة وفقاهة على يدَي مخدومي ومكرمي فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله، وهذا من بواعث الفرح الكبير للأمة الإسلامية بكاملها”.
وكتب الشيخ مولانا عبد الله الكابودروي في كتاب “تحفة غجرات “لقد عاش سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي مدة طويلة من الزمان بصحبة سماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ما منحه نظرة ثاقبة في قضايا الأمة الإسلامية، أما الوسطية والاعتدال وسلامة الفكر فقد ورثها من سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي، ولذلك فحيثما يذهب إليه شيخنا يذكر بكل إخلاص وصدق وحرص على الصلاح، ويؤكد أهمية المدارس الدينية وتضحيات أكابر أمتنا الإسلامية، ويبين الأحداث والوقائع من التاريخ الإسلامي التي تحمل دروسا وعبرًا ليكشف القناع بها عن مؤامرات ودسائس المستشرقين وأعداء الإسلام”.
ويقول فضيلة الشيخ سعيد الرحمن الأعظمي الندوي حفظه الله ورعاه الذي كان خير زميل عمله ورفيق دربه لأكثر من ستة عقود في ندوة العلماء “كانت مهمة حياة فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي هي الدعوة إلى الله، وإصلاح المجتمع، وتعمير الإنسانية، وتوخّي صلاحها، واتبع وسائل مختلفة لنشر رسالته وتحقيق مهمته، من التصنيف والتأليف، والوعظ والنصيحة، والتدريس، والصحافة وما إلى ذلك، وقد كان يملك صفات عديدة؛ أهمها مهارته في علم النفس، فكان يكلم الناس بمقتضى نفسية المخاطَب، وكان عميق الاطلاع على أحوال الأمة الإسلامية، وقد سافر إلى بلدان كثيرة واطلع من خلال رحلاته واسفاره على أحوالها ودرسها دراسة عميقة، ثم تحدث عنها في خطبه، فكانت خطبه مؤثرة جدًّا لكونها تحمل تجارب ورؤى عميقة”.
وهناك مئات، بل ألوف من الشهادات الحية من علماء عصره، وكلها تبين عظمة هذا العالم العارف بالله الذي لم يطلب جزاء ولا شكورًا لقاء خدماته الجليلة للإسلام والمسلمين، غاية ما تمناه في حياته هو صلاح المسلمين وفلاحهم، والنهوض بمستواهم العلمي والفكري والثقافي، وخدمة الإسلام بكل ما تيسر له من وسائل وسبل، وقد أخلص عمله لله فمنحه الله العزة والشرف والمحبة والقبول شرقاً، وغرباً، وشمالاً، وجنوباً. رفع الله درجاته في أعلى العليين وأسكنه مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.