نبذة عن سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله
15 مايو, 2023مرشد الأمَّة في هذا العصر
3 سبتمبر, 2023عالم فقدناه
الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
الرئيس العام لندوة العلماء، لكناؤ (الهند)
لقد أنجبت ندوة العلماء -ولا تزال- عددًا كبيرًا من العلماء الربانيين، والدعاة المخلصين، وأصحاب الفكر السليم منذ إنشائها، أمثال العلامة الكبير السيد سليمان الندوي، والمفكر الإسلامي الكبير العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، وشيخنا العلامة محمد الرابع الحسني الندوي الذي كان خير خلف لخير سلف في ندوة العلماء، عاش فيها، وترعرع فيها، وقضى جل حياته في خدمتها علميًا وفكريًا ومنهجيًا وإداريًا، وقد ناب عن الإمام أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله خير نيابة، وخلفه بعد وفاته،فقام مقامه خير قيام، وكان يشبهه خَلْقًا وخُلُقًا، ويماثله علمًا وفكرًا، فانتخب رئيسًا لندوة العلماء، ورئيسًا لهيئة قانون الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند، ورئيسًا لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، وقد اتفقت عليه الألسنة، ومالت إليه القلوب، حتى صار مرجعًا للعلماء، ومشرفًا عامًا للمدارس والجامعات والمعاهد الإسلامية والحركات الدعوية والمؤسسات الفكرية في الهند وخارجها.
ولد في قرية “تكيه كلان” بمديرية رائ بريلي التي تقع على بعد ثمانين كلومترًا من مدينة لكناؤ، وهي قرية تاريخية، أنجبت العلماء الصالحين، والدعاة المخلصين، والمجاهدين كالإمام أحمد بن عرفان الشهيد، والشيخ ضياء النبي الحسني، والعلامة عبد الحي الحسني، والإمام أبي الحسن الندوي، رحمهم الله تعالى.
وبدأ دراسته في قريته، ثم التحق بدار العلوم لندوة العلماء، واستفاد من أساتذتها الكبار وأخذ الحديث النبوي من العلامة الشيخ حليم عطا شيخ الحديث بدار العلوم لندوة العلماء، والشيخ حميد الدين، وقد حصلت له الإجازة من المحدثين الكبار بالهند، كما نال الإجازة من كبار المحدثين العرب، فقد بذل جهدًا مضنيًا في التحصيل العلمي، كان يقول وهو يحثُّنا على الجد والاجتهاد: “إن ما بذلته في مرحلة الدراسة وفي بداية التدريس من الجهد،لم يزل يؤتى أكله في حياتي كل حين”.
واتصل بكبار المشائخ والعلماء الربانيين في الهند كالعلامة أشرف علي التهانوي والمجاهد الكبير الشيخ حسين أحمد المدني، والعالم الرباني الشيخ عبد القادر الرائيفوري، رحمهم الله تعالى.
وأخذ العلم والأدب والفكر عن خاله الإمام أبي الحسن علي الحسني الندوي، وتربى عليه، فارتوى من منبع علمه، واستقى من منهل فكره، واقتبس من مشكاة منهجه، ولازم صحبته في الحل والترحال، حتى صار خليفته بعد وفاته في ندوة العلماء، وفي كثير من المجامع والهيئات الدينية الإسلامية، والمدارس والمراكز العلمية والأدبية، انتخب رئيسًا لهيئة الأحوال الشخصية لعموم الهند، ونائب رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وفي الحقيقة قد وقع الاختيار عليه كرئيس لها، ولكنه اعتذر، فانتخب الدكتور عبد القدوس أبي صالح رئيسًا لها.
كان شيخنا نموذجًا في الخلق الإسلامي، وآخر العلماء الربانيين الكبار، انتهت إليه رئاسة العلم والأدب في الهند، وكان أستاذًا ومربيًا للأجيال، لقد قضى حوالي 75 سنة من عمره في التدريس والتربية الإسلامية، واستمر في التدريس إلى آخر حياته، فكان التدريس هوايته المحببة، فانقطع في آخر حياته إلى تدريس الحديث النبوي الشريف، فكان يلقي درسا أو درسين في كل أسبوع على طلبة السنة النهائية من الدراسات العليا في دار العلوم لندوة العلماء، وأخذ منه آلاف من العلماء الإجازة في الحديث النبوي، وكان سنده عاليًا، فانتشر تلامذته في مختلف أنحاء العالم لخدمة الإسلام والمسلمين.
ودرّس الأدب والفقه والتاريخ والحديث والتفسير، وإن كان موضوع اختصاصه اللغة والأدب، كان له نظر عميق في القرآن وعلومه، وكانت حياته حافلة بالعطاء والنفع، وأعماله غزيرة منيرة، وجهوده جبارة في خدمة العلم والدين والكلم الطيب، كما كانت له خبرة تامة واطلاع واسع على شئون العالم الإسلامي وقضاياه، والحركات الإسلامية، وتجربة واسعة في مجالات العمل الإسلامي.
ومما يتميز به من خصائص إنسانية كريمة رفيعة: الحب لله، والإخلاص له في السر والعلن، وسمو الخلق ونكران الذات، هذه هي الخصائص النبيلة التي جعلته شارة بين الناس، وقمة في النبل والكرم، وهذا من فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده الصالحين، وأعتقد أنها هي التي أكسبته المحبة لدى الناس، وخير دليل على ذلك ما شهدته مدينة لكناؤ من جمع حاشد في جنازته، فلم ير أهالي لكناؤ جنازة أكثر منها حشدًا في تاريخها.
وقد واجه –رغم أنه ولد في أسرة ثرية–أوضاعًا صعبة في مختلف مراحل الحياة، فعانى من الشظف وضنك العيش، ولكن لم ينبس بكلمة تنم عن شكواه، بل مضى قدمًا في سبيله إلى الأمام على شاكلة أسلافه الصالحين، صابرًا محتملا، وشاكرًا راضيًا بما قدره الله له.
لقد نذر حياته كلها لندوة العلماء، ولرسالتها ودعوتها ومنهجها، فكان في عهد خاله العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي ساعده الأيمن، وأمين سره، بل العقل المدبر لشئون ندوة العلماء حتى طبق صيتُها الآفاق، وتوسَّع نطاقها، واستلفتت رسالتها ومنهجها الوسط أنظار العالم إليها، كأن العالم وجد ضالته، فنالت قبولا عامًا لدى أصحاب الفكر والدعوة والتربية والتزكية، وسار شيخنا على الدرب الذي سلكه سلفه من الوسطية في شرح الإسلام، والحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن في الدعوة والإصلاح، وقد أبقاها على المكانة التي بلغتها ندوة العلماء في زمن شيخه أبي الحسن الندوي،ورقَّاها، وقد فُتحت في عهده أقسام جديدة،وتوسع نطاق عملها، وانتشرت فروعها في مختلف أنحاء البلد، ولم ينحرف قيد شعرة عن الفكر والمنهج، ولم يغيِّر في الهدف والاتجاه الذي قرَّره بناة ندوة العلماء، ومن الجدير بالذكر أنه مرَّ بمحنة كبيرة، ولكن لم يتزحزج عن موقفه، بل ثبت في وجهها كالصخرة الصماء، فصان ندوة العلماء مما يهدد كيانها.
وكانت حياة شيخنا حافلة بالعطاء والإنتاج العلمي المستمر، فترك وراءه مؤلفات قيمة حول موضوعات إسلامية؛ أدبية وفكرية وحضارية وعلمية وتعليمية وتاريخية، أثرت المكتبة الإسلامية، وأدرجت بعض منها في مقررات الجامعات والمدارس الإسلامية في الهند وخارجها.
ونال كتابُه في السيرة النبوية “سراجًا منيرًا: سيرة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم” قبولاً عامًّا في الأوساط العلمية والدعوية، ونُقِل إلى عدة لغات عالمية، ويتميز هذا الكتاب بأسلوب سهل مقنع، راعى فيه المؤلف الأسلوب الدعوي والطبيعة المعاصرة، فعلى الدعاة أن يدرسوه ليتيسر لهم إقناع النفوس.
وكان شيخنا يتمتع بنظرة ثاقبة، وفراسة مؤمنة، ورأي سديد، وحكمة صائبة، في حقل العمل الإسلامي، فكان يدرك كنه الأمور، ويصل إلى بواطنها بفراسته المؤمنة، وكان القادة والزعماء والعاملون في مجالات خدمة الإسلام يستفيدون منه ويستنيرون بمشورته ورأيه، وفي الحقيقة قد أدى شيخنا دورًا قياديًا رشيدًا في معالجة القضايا الإسلامية في الهند، يرشدهم في كل ما يهمهم من قضايا ومشاكل، ويغذيهم بغذاء صالح. رحمه الله رحمة واسعة.(معربة من الأردية)