ليلة مذبحة: عرض وتحليل

نظرة على أعلام القرن العشرين في الهند وإنتاجاتهم الأدبية باللغة العربية (1)
3 فبراير, 2021
عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (8)
4 مارس, 2021

ليلة مذبحة: عرض وتحليل

قصة قصيرة:

[باريس/24/ أغسطس 1572م/ليلة عيد القديس سانت بارثلوميو ].

“فترت شمس الأصيل ووهنت أشعتها حتي ولى النهار، وبدأ ظلام الليل ينشر جناحيه على سماء باريس، ويرخي سدوله على أرضها، إلى أن أطبق الظلام، وقصر “اللوفر” الملكي جعل يشع نوراً وبهاءاً، كالبدر طالعا من الحجاب الأسود، أو كشمس الليل في كبد السماء، وأشرقت جنبات القصر كأنها بوتقة أحميت يجول فيها ذهب ذائب، والمصابيح نجوم ركبت في السقوف والجدران،تتمايل ألسنتها ليعانق بعضها بعضا، تترنح وتهتز كماء البحر قبلته الرياح، تملأ النواظر عجبا، وتحكى للمسامع قصصا، وغشي القصر خليط من التمتمة والغمغمة والهمسة والقهقهة والرقص والغناء والطرب.

إنها ليلة زفاف “مارغريت” أخت الملك “تشارلز التاسع” الكاثوليكي، قدسبق تزويجها من “هنرى نافار” البروتستانى، إنه ليس حفل زفاف زوجين بل حفل قران خصمين، استضاف الملك الفرنسي بل استدرج إلى الحفل زعماء البروتستانت وأعيانهم، والناس فريقان:

بروتستانيون وافدون من أدنى فرنسا وأقصاها، جاهلون بما خبئ لهم، غارقون في المسرة واللهو، يحتسون كأنهم لا يحبون الصحو أبدا. وكاثوليكيون من الملك والسادة والحرس والخدم، على وجوههم ملامح بشر تشف عن تجاعيد كره، وعلى شفاههم بسمة مفداة مشربة ببغضة مصراة.

أما خارج القصر فجنود ومتطوعون حُبسوا في أماكنهم حبس الفيل بالمغمس، في مسوح الطمأنينة والوقار، ويعتلج في صدورهم من قلق وترقب واضطراب ما تشيب لهوله مفارق الغربان، خطوات وئيدة وحركات مريبة، ولعل خاطر الظلماء لم يستودع سرا أخطر وأنكى من قبل هذه الليلة.

مضت اللية تطوى صفحاتها وتأكل ظلماتها، وقد جمعت في طياتها ليالي امرئ القيس والفرزدق وبشار والمتنبي، وهي حبلى لا تعلم ما تلد، وعن أي صبح تنجلى، وها قد كاد أن يتعانق الظلام الحالك مع الفجر البازغ، وأن ينهض النائم من مهجعه، ويطير الطائر من عشه، ويخلو العابد مع ربه، فإذا بأجراس النواقيس دقت، ولكن لا للصلاة للرب ومناجاته، بل إشارة للفتك بالبروتستانت والإجهاض عليهم، فأحاط بهم الموت الزؤام قبل أن يستشعروه، وأشهرت السيوف وأعملت، ونطقت الرماح وأجرت، فإذا بالأكواب والكؤوس تراكمت عليها الأعناق والرؤوس، والدلاء أترعت بالدماء، وانجلى الصبح الكئيب عن الليل البهيم بصرعى وقتلى في حفل الزفاف لا في حومة القتال، ولم تغرب شمس هذا الصبح فى باريس وبلادها المجاورة إلا بعد ثلاثة أيام”(1).

الخلفية والسياق:

هذه قصة ليلة مذبحة في باريس وقعت في القرن السادس عشر المسيحي، وسجلت في التاريخ بالعديد من الأسماء، منها “مذبحة عيد القديس سانت بارثلوميو “، و”بارثلو ميو” أحد حواريِّ المسيح عليه السلام، يحظى بشرف ومجد في التقاليد النصرانية، تحتفل الكاثوليكية والإنجليكانية بعيد هذا القديس في 24/أغسطس، والأرثوذكس في 11/يونيو من كل عام.

تعود جذور المذبحة إلى التوتر والصراع بين الكاثوليك والبروتستانت (ألهوغونوتيين) خشية اتساع رقعة البروتستانتية وانتشارها في فرنسا، وكان من المدبرين للمذبحة ملك فرنسا “تشارلز التاسع” وأمه “كاترينا دوميديسيس” وملك إسبانيا “فليب الثانى” والبابا وبعض الكاثوليك السادة(2).

الوحشية والقساوة:

بلغ مجموع عدد القتلى من المدنيين الأبرياء ثلاثين ألفا(3)، واستمرت المذبحة ثلاثة أيام، وانتشرت في فرنسا كلها وامتدت إلى البلاد المجاورة، يكتب غوستاف لوبون:

“إن هذه المذبحة لم تكن جرما اقترفه الملك فقط بل كان جرما شعبيا”(4). قال جولارت: ” عربات مكدسة بالأجسام الميتة للسيدات النبيلة، والفتيات والرجال والفتيان تم إسقاطها وإفراغها فى النهر الذى كان مغطى بجثث الموتى، واحمر بالدماء، وتم قذف الآخرين في بئر تستخدم عادة للتخلص من جثث الحيوانات”(5). يكتب روز سليمان: “وتعد تلك المذبحة أشد النوازل التى نزلت بفرنسا، وقد دامت أياما، وذبح فيها جمهور غفير من الرجال والنساء والأولاد والأطفال حتى تضرجت كل فرنسا بالدماء، ولم يكن من سبب في سفكها إلا التعصب الديني الذميم دون سواه، وقامت يومئذ مجزرة في قصر اللوفر منذ الساعة الخامسة صباحا والبروتستانيون نيام،فوجئوا مفاجأة وهم في مخادعهم بعد ليلة قضوها مع الملك، يشاطرونه فيها مسرة اللهو واللعب، فانتزعت منهم أسلحتهم، وحزت أعناقهم حزا كأنهم أغنام، وقيل: إن شارل التاسع كان ينظر إلى تقتيلهم من نافذة القصر”(6).

الهوامش:

(1) نالت الحادثة اهتمام المؤرخين والكتاب،وخصها بعضهم بالتأليف، من ذلك: (1)مذبحة باريس: كريستوفر مارلو (1593)، ترجمة عربية: عودة القضاء، دارالبيروني.(2) شهداء التعصب/ميشل زيفاكو (1860-1918)، ترجمة عربية/نقولا رزق الله، دارالرافدين،2012.(3) تاريخ البروتستانت في فرنسا / باتريك كابانيل / فايار باريس (2012)، وغير ذلك من الكتب الكثيرة المؤلفة في الموضوع.

(2) الوظيفة اليهودية: من أرتحششتا إلى بلفور/د.فهد حجازي/ص: 203/دارالفارابي،بيروت (2016).

(3) عدد الذين قتلوا في المذبحة التى نوقشت منذ ما يقرب من 450 سنة، يرى فيه معظم المؤرخين أن حوالى (3000)شخص قتلوا في باريس، وربما (10000) على مستوى البلاد، ويعتقد آخرون أنه قد يكون ما بين (20،000) و(30،000). *اليهودية: دكتور أحمد شبلى/ص: (25) دار النهضة المصرية (1974).

(4) روح الثورات والثورة الفرنسية/غوستاف لوبون/ص:26، (1934).

(5) بوابة المعلومات المعرفية/مذبحة يوم القديس بارثلوميو:الأسباب،الأحداث، التأثير. nr.figgysfoodtruck.com.

(6) الكاتب: روز سليمان، المصدر: الميادين نت، 25/ آب(2017).

 

(سلمان نسيم الندوي)

×