الحقائق تدعوكم أيها العرب

عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (4)
21 أكتوبر, 2020
الحرية السياسية في المفهوم الإسلامي
21 أكتوبر, 2020

الحقائق تدعوكم أيها العرب

تختلف طبائع الإنسان، فمنهم من يحب الواقع، وفطرته تدعو إلى الاعتراف بالحقيقة والانسياق معها، ومنهم من يفر من الواقع ويغض البصر عن الحقائق الثابتة، ولكن طبيعة الإنسان العربي الاعتراف بالواقع والحقيقة، والتفاني في سبيلها، ولذا كان العرب واقعيين عمليين في حياتهم، لم تصرف عن واقعيتهم وعمليتهم ثقافة الإمبراطورية الرومية الراقية، وآداب الإمبراطورية الساسانية الزاهية، هذا شيء واقعي وحقيقة لا تجحد أن الإنسان يموت ويفنى وإن طال به الزمان، وطاب له العيش، ولكن الإنسان رغم هذه الحقيقة الكبرى يخاف الموت ولا يريد أن يذكر اسمه في حياته اللذيذة لكي لا يكدر صفوها، حتى بلغ به الأمر في بعض المناطق أنهم اخترعوا إشارات وكلمات للدلالة على الموت لأن لفظ “الموت” يكفي لأصحاب تلك المناطق تكديراً لحياتهم وإدخالاً للخوف والدهشة عليهم يطير به نومهم وتضطرب قلوبهم، لكن الإنسان العربي منذ تلك الأيام لا يخاف الموت بل يستقبله استقبالاً حاراً كما يبدو من أبياتهم وحروبهم الدامية التي دامت مستمرة.

والحقيقة الثانية: الاستقلال والحرية، إنما هي حقيقة فطر عليها البشر، ولكن استيلاء الملوك واستعبادهم العباد جعل طوائف كثيرة من العباد ترضى بالهوان، والعبودية، وتركع أمام الجبابرة والطغاة وتسجد لكل فرعون وقارون، ولكن البلاد العربية بموقعها الاستراتيجي وبعدها عن الآداب المدنية والحضارات الراقية، لم تلن قناتها ولم تستكن أمام الجبابرة والظلمة الطغاة بل بذلت ما في وسعها من إمكانيات لإبقاء مالديها من مخلفات عقلية ونظرية وعقدية، تدل عليها الوقعة التي حدثت في عهد جد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث شن أبرهة الغارة فعرقلت سيرها القبائل المختلفة بوسائلها وإن كانت محدودة، ثم تكلم عبد المطلب بكلمته البليغة – بعد ما استعرض الخلفيات والملابسات والمقتضيات – “إن للبيت رباً سيحميه” إنما هي تنم عن ثقته برب البيت، وهذه الثقة والاعتماد لا وجود لهما إلا بعد استقلال كامل وحرية كاملة.

والحقيقة الثالثة: هي التطابق في الحياة وخلوها عن النفاق، والمطابقة الواقعة في الأقوال والأعمال، والاحتراز عن التناقض فيها، إنها حقيقة أحبها الإنسان منذ أن عمر هذه الأرض، فإنه كان لا يعرف النفاق ولا يعرف الكذب ولكن تطرق إليه الفساد، ونجم فيه النفاق لأجل تقاطره على الدنيا وحطامها وتكالبه على حب الرئاسة والجاه، والأمة العربية فاقت الأمم في هذه الصفة، وقد تبنت هذه الحقيقة واحتضنتها بل استماتت في سبيلها كما تبدو هذه الحقيقة جلية في تلك الوقائع التي وقعت في صلح الحديبية من كلا الجانبين وفي كتابة شروط الصلح حيث كتب في الأخير: من محمد عبد الله ورسوله، فاعترض سهيل الذي جاء من قبل المشركين على رسالته، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم نظراً إلى المصلحة والطبيعة التي فطر عليها قومها، وقول أبي سفيان عند هرقل وكان أعدى عدو للإسلام آنذاك حيث سأله هرقل عن كثير من أمور محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق خوفاً من أن يؤثر عنه الكذب، لأنه حقيقة لا يمكن جحودها في تلك البيئة – وإن كانت موبؤة بأمراض وأسقام -.

هذه حقائق ثابتة لا يجحدها إلا من جحد ضوء الشمس في رابعة النهار وأنكر وجود الجبال الراسيات بعد بروزها أمام عينيه.

ولكن هناك حقائق كانت بارزة، وكان يسلمها الإنسان في القرون الأولى ولكنها اختفت وتسترت وبرزت صور شتى مكان هذه الحقائق، وانقلبت الموازين وتغيرت المقاييس.

منها المساواة الإنسانية والوحدة البشرية وهي حقيقة أساسية قام عليها الكيان الإنساني ولكنها احتجبت وراء القوميات الضيقة، والنظام الطبقي الجائر بين إنسان وإنسان فبرز تقديس السلالات، والافتخار بالقوميات فتزعم الإنسان هذه الصورة حقيقة وتعامل معها كحقيقة ثابتة لا يمكن غض البصر عنها، فسرى هذا الداء العضال في جسم الإنسان العربي خاصة فاعتز بقبائله وتقاتل دونه، حتى جرى منه مجرى الدم فقطعه إرباً إرباً.

منها البساطة في المعيشة والشظف في الحياة، وخشونة العيش والجلادة وبها كان قوام الإنسانية وبقاؤها، ووجود كيانها الصحيح بالشمولية والاتزان، وقد صرح رستم قائد قواد الفرس أمام جنوده حين وصل إليه ربعي بن عامر رضي الله عنه بترسه وفرسه وثيابه الصفيقة، أن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب، وقد كتب المربي الكبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله العرب وهم في بلاد العجم “إياكم والتنعم وزى العجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب وتمعدوا واخشوشنوا واخشوشبوا واخلولقوا وأعطوا الركب أسنتها وانزوا نزواً وارموا الأغراض”.

لم يكن العرب يستحسنون التأنق في الشارة واللباس ولا التنوع في المآكل والمشارب بل يكتفون بما لديهم من لحوم وتمور وألبان.

منها القوة وإعدادها للتبييت وشن الغارات لأنها عادة متبعة وطبيعة متوارثة فأصبحت كحقيقة لا مناص عنها، كما يقول الشاعر:

وأحياناً على بكر أخينا

إذا ما لم نجد إلا أخانا

هذه حقائق قد أثبتت ذاتيتها وأحقيتها في خضم الصور والأشكال وجدارتها وصلاحيتها في جنب الحقائق التي ليست بحقائق بل هي أشباهها ولكن الإنسان نسي الطريق فنسي الحقائق التي كانت لابد له أن يختارها وأن يأتي به أمام إخوانه من الإنس.

فإنكم أيها العرب نيط بكم فلاح الإنسانية وفسادها، لإنه إذا فسد العرب فلا خير في الدنيا، وإنكم خوطبتم في بعض الروايات كما جاء “ويل للعرب من شر قد اقترب” لأن الشر وإن كان مستطيراً في العالم يتأثر به الكون ولكن العالم عقدت ناصيته بالعرب فإنهم هم ولاة الناس في الخير والشر هذا كما يعلم أنهم أقرب الناس إلى الحقائق وأولاهم بها علماً وعملاً، فإنه لا يأتي الوهن في الأمة إلا بحب الدنيا وكراهية الموت، وتبقى رغم كثرة عددها وضخامة عددها غثاء كغثاء السيل وتتداعى عليها الأمم كتداعى الأكلة على القصعة، لأن القصعة لا حرية لها ولا استقلال، يوجد في وسطها كل ما لذ وطاب، ولكنها محاطة بالأكلة و المستغلين بها.

فوقعت هذه الأمة فريسة النفاق والتناقض في الحياة وتجردت عن التطابق والواقعية، إن الطبقة الحاكمة والطبقة المثقفة بالثقافة الغربية لا تزال تردد كلمات لكسب السمعة والصيت الحسن، العودة إلى الدين الحنيف، الشريعة الغراء، الكتاب والسنة، وما إلى ذلك من الكلمات الأخريات التي تخادع بها السذج من شعبها، والبله من قومها، هي بعيدة كل البعد عن معانيها وحقائقها، إن أقوالها تخالف أفعالها، وإن أعمالها تضاد كلماتها، إنها تبطن غير ما تظهر، تبرز غير ما تبدى، وتعلن غير ما تريد، فنشأ صراع عنيف بين الظاهر والباطن كما هو صراع قائم بين الحكومات والشعوب، وبين الملوك والرعايا، وبين الفكرة الغربية التي تبنتها الحكومات وبين الفكرة الإسلامية التي ورثتها الأمة المسلمة عن علم وبصيرة.

نتيجة لهذا الصراع المستمر الدائم توزعت الوحدة البشرية إلى وحدات لا نهاية لها وامحت آثار المساواة الإنسانية وقد وضع لبنتها الأولى أبو البشر آدم عليه السلام ولكن غابت في دياجر الظلم واللاإنسانية حتى جاء خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فأعاد إلى البناء جماله وإلى الإنسانية حقها المفقود، وعرفها الحقيقة التي اختفت وتسترت وظن الجاهليون أن الحقيقة هي ما فهموها وتعرفوا عليها ولا حقيقة سواها فأعلنها مجلجلاً ومدوياً ارتجت به جبال مكة وشهدت عليه الكعبة المشرفة في فتح مكة.

هذه حقائق لا يمكن التغاضي عنها لأمة أخرجت وبعثت للوصاية والقيادة وحملت على كواهلها أعباء ومسئوليات الدعوة إلى الله وإخراج الإنسانية من الظلم والجور وعبادة العباد والتسكع في الجهالات والتمرغ في المستنقعات إلى العدل والأمن وعبادة الله وحده، والتمتع بصفات العلم والحلم والتنفس في أجواء الحقائق الفسيحة.

أيها العرب إن الميزة التي ميزتم بها على سائر الأمم والحقيقة التي خصصتهم بها بين الشعوب الأخرى في العالم، هي تمسككم بالحقائق واستماتتكم في سبيلها فقد حان حين رجوعكم إلى الحقائق، وقد جاء دور العودة إلى الحقائق، الدنيا كلها بدأت تردد هذه الكلمة، إن هذه الحقيقة حقيقة لا يمكن إخفاءها وراء ألف ستار، لماذا نحن ننتظر أن يعرفنا هؤلاء الحقائق، وهذا أكبر جحود للحقيقة أن لا نفتح أعيننا ولا نستعمل ما عندنا من أدوات العلم والعقل في معرفة الحقائق بل نتكل على هؤلاء الذين تعلموا وتقدموا على حساب مكتباتنا الزاخرة ومؤلفاتنا القيمة. (أرشيف الرائد، السنة: 41، العدد:5، 1/سبتمبر 1999م)

 

(عبد الله محمد الحسني الندوي)

×