مع الإسلام ولكن؟

الدعوة الإسلامية في العصر الحاضر جبهاتها الحاسمة ومجالاتها الرئيسية (3/الأخيرة)
17 يناير, 2024
القلق النفسي
17 يناير, 2024

مع الإسلام ولكن؟

محمد الحسني

نحن كلنا مع الإسلام، ما في ذلك شك، مع الإسلام في الهند، وباكستان، ومصر، وسوريا، والحجاز، والكويت، وفي كل بلد إسلامي، وفي كل جبهة إسلامية.

نحن مع الإسلام دائمًا، وبصفة عامة، والحمد لله على هذه النعمة العظيمة الباقية إن شاء الله.

ولكن..؟

إن “لكن” هو الفارق الوحيد الأساسي بين إسلام وإسلام، بين إسلام لا يرى عليه ضررًا من أي حركة سياسية، ولو خالفت أهم قواعده، وأولى مقوماته، وينسجم مع سائر الأوضاع والملابسات ولو عارضته من أول الطريق، وبداية الخط.

بين إسلام “مضمون” عقد عليه في شركات التأمين، فلا تفسده خيانة، ولا يفسده نفاق، ولا يضره استهتار، ولا ينال منه إسراف، ولا تكدر بحره الزاخر فجور ثقافية، وخلاعة أدبية وفضيحة فنية، وعرى علمي، وكفر منطقي، وإنكار قومي، وشذوذ سياسي، لأنه إسلام مضمون مسجل، وعد بسلامته ومتانته وجودته “كبار تلاميذ الغرب ووكلائه الموزعين في الشرق”.

إنه إسلام يسمى فيه المولود مسلمًا بحكم القانون والوراثة، ويبقى مسلمًا ليتمتع به بما شاء من منافع مادية وأدبية، ولا يحتاج إلى تجديد في إيمانه؛ لأنه ولد من أبوين مسلمين وكفى.

إنه إسلام جامد، واقف، لا ينقص ولا يزيد، ولا يتحرك؛ ورحم الله البخاري فقد عقد بابًا تحت هذا العنوان “الإيمان يزيد وينقص” وهو لا يعلم أن في بلده وفي البلاد الإسلامية العريقة قومًا لا تضرهم أفكار منحرفة، ونظريات ملحدة،وفلسفات مادية…… ولا ينقص إيمانهم بشيء من هذه الأشياء.

إنه إسلام سلبي، لا يتدخل في شؤون المجتمع والحياة، بل يترك الحبل على غاربه، ويدع جيله تحت رحمة الموجات المادية الطاغية والأفكار السامة، والأدب المائع، فيترك المجتمع فريسة سهلة ولقمة سائغة أمام ذئاب الإنسانية ووحوش الحضارة، وقراصنة السياسة، ولصوص الدين والأدب، ويظن أنه سينجو بنفسه ويقول كما قال ولد سيدنا نوح عليه السلام “قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ” [هود:43] ثم لا يلبث أن يجرفه التيار المارد العنيف، وتسوقه هذه “السلبية البريئة” إلى كل ما عافه قديمًا واستنكفه، ومقته، ومجه “وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ” [هود:43].

إن هذا الإسلام يعيش جنبًا إلى جنب مع كل كاتب يبيع الهوى وينشر المنكر، ويروج بضاعة الفحشاء، مع كل أديب يحسن الكتابة، ويجيد الوصف ولو تطاول على ذات الله عز وجل، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستمع بكل أناة وصبر وشرح صدر إلى كل حوار لبق وكلام شيق، وحديث حلو، ولو كان حالقًا للدين، ماحقًا للإيمان، هادمًا للأخلاق، وينظر إلى كل صورة على الشاشة ولو ذهبت بالحزم والحلم، واللب والعقل، وأطار الرشد والصواب.

هذا الإسلام يمشي مع سائر التقلبات والموضات الفكرية والمذاهب الاجتماعية والسياسية، والحركات التقدمية الثورية، ومع كل فريق من المغنيين والمصورين والهائمين والحالمين، والشذاذ الأفاقين، لأن “تمشي” هذه “الكلمة السحرية” تضع في يد هؤلاء القوم “ورقة مرور” يتعدون بها كل حد، ويحطمون بها كل سياج، ويهيمون بها في كل واد وناد.

إنه إسلام “المسالمين” لا المسلمين، في تعبير أصح وأفصح، لأنه يسالم جميع الألوان والأنواع الحضارية الموجودة في العالم المعاصر، ويتبع كل سبيل غير سبيل الرشد.

إن هذا الإسلام لا ينقص بالتهاون في حقوق الله، والاستهانة بشعائر الدين”، فإذا وقع عنده صدام بين عبادات وأعمال سياسية واجتماعية طغت الأعمال السياسية على العبادات والصلوات، ولذة التقريب والمناجاة، وإذا حدث له شيء أو شغله أمر من تحرير في صحيفة أو خطاب في حفل أو قيادة لموكب أو رفع لاحتجاج أو قضية في برلمان أو حديث في مأدبة ومسامرة في عشاء أو نزهة في حديقة، وحتى فنجان شأي بين الأصدقاء نسي ما عليه من حق الله، وهو في الأشغال والنشاطات، وفي المشكلات والأزمات أولى بالطاعات وأحق بالدعاء والتضرع والمناجاة، وأحوج إلى العبادة والعبودية دون الأوضاع الهادئة والظروف العادية، فلا اعتبار بطاعة لم تصطدم بما يهواه الطبع وعبادة لم تشق على النفس، ولا قيمة لكأس لم تطفح، وعين لم تفض.

إنها درجات في إسلام ولكنه على كل حال إسلام المسالمين، أما إسلام المسلمين فهو لا يقبل “على ما يرام” ولا يؤمن بمبدأ “الدين للديان والوطن للجميع” ولا يجمع بين الخطب الدينية في المحافل، والترفيه بالبرامج العارية الراقصة، الفاسدة المفسدة بعد صلاة العشاء بين أولاده وأفلاذ أكباده.

إنه لا يؤمن بالجمع بين حضارة الغرب وعقيدة الإسلام؛ والزي الإسلامي والحياة الأوربية، والجمع بين لغة الحديث والقرآن وأفكار الملحدين والمنحرفين.

إنها صور جزئية، وصور بسيطة، وأمور ليست بذات أهمية عند البعض، ولكنها تصور ذلك الإسلام الذي أشرنا إليه كل التصوير، إسلام من “ماركة ممتاز” لا يؤثر فيه شيء، ولا يعتريه البلى والوهن، ولا ينقص بنقصان شرع ودين ومسالمة واستسلام أو انسياق تام مع تيارات المادة والمعدة، واتجاهات الغرب والشرق واليمين واليسار.

نحن مع الإسلام في كل مكان، ما في ذلك من شك، ولكن مع الإسلام المستقل الأصيل، لا الإسلام التابع، الفرعي، المتطفل.

نحن مع الإسلام القائد، السائد، المعلم الموجه، لا الإسلام الذي يتلقى الأوامر والتعليمات من الخارج……

مع إسلام لا ينكر العلم والسياسة، بل إن العلم والسياسة فيه عادة، ولا يهمل الطاعة والعبادة فهي مفزع المؤمن ومأمنه، وحصنه ومعقله، وأكبر همه وغاية مناه.

مع إسلام مناضل مكافح متصل الحلقات بجميع أجزائه، وثيق العرى بجميع حركاته وتنظيماته، عميق الحب بجميع أبنائه، كثير الاعتراف بالفضل عظيم التقدير لذوي الكفاية والإخلاص، كثير الشكر على المساهمة والتعاون.

هذا الإسلام العميق الواسع، المشرف النير، الكامل الشامل، الأصيل المستقل، المكافح المناضل.

الإسلام الذي يتكلم ولو كره الصليبيون الجدد، الحمر والبيض والصفر، ويرفع صوته لتنظيم المجتمع والحكم؛ والأسرة والعائلة، على أسس نقية واضحة من السيرة الطاهرة، والشريعة الخالدة والكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

هذا الإسلام هو العنصر الأقوى في معركتنا الكبرى، وردنا الحاسم على هواة الفساد، ودعاة الانحلال، والمتآمرين على سلامة البلاد، ونعمة الأمن والهناء، باسم الحرية والعلم والتقدمية…….

نعم، نحن مع الإسلام ولكن ؟. (مجلة البعث الإسلامي، أغسطس 1970م)

×