الدعوة الإسلامية في العصر الحاضر جبهاتها الحاسمة ومجالاتها الرئيسية (3/الأخيرة)

الدعوة الإسلامية في العصر الحاضر جبهاتها الحاسمة ومجالاتها الرئيسية (2)
28 نوفمبر, 2023
مع الإسلام ولكن؟
17 يناير, 2024

الدعوة الإسلامية في العصر الحاضر جبهاتها الحاسمة ومجالاتها الرئيسية (3/الأخيرة)

العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي

11–وأخيراً لا آخراً هو ما تفرضه طبيعة الإسلام وتاريخه المجيد، وتقتضيه الفطرة السليمة، ونفسية الإنسان الدائمة، والأوضاع السائدة، هو وجود حركة إيمانية دعوية إيجابية قوية، في العالم الإسلامي، تقترن بصفات الرجولة والطموح وعلو الهمة وبعد النظر والقدرة على مواجهة الطاقات الرئيسية القائدة التي تملكت زمام قيادة البشرية وأصبحت تتحكم في مصائر الشعوب والأقطار الإسلامية وغير الإسلامية – من غير حق ومبرر – وذلك بإيمان القائمين بهذه الحركة والدعوة القوي، وثقتهم بفضل الإسلام وحاجة البشرية إليه.

ويقترن نشاط هذه الحركة أو الدعوة الإسلامية بروح التضحية والبطولة والجلادة والتقشف والقدرة على المغامرات – إن كان لا بد منها – فإن الناس ما زالوا مفطورين على تقدير الإيمان القوي، والاعتزاز بالعقيدة والمبدأ، والاستهانة بالمادة واللذة، والعزة، وروح المخاطرة، وعلى الإجلال لشيء لا يجدونه عندهم، فالضعيف مفطور على احترام القوي والفقير مفطور على احترام الغني، والأمي مفطور على احترام العالم، حتى اللئيم مفطور على احترام الكريم، ولأن التاريخ الإسلامي مليء بالبطولات والمغامرات، ولأن الواعين والمتتبعين لواقع الأمم والبلاد، وأصحاب الضمائر الحية قد سئموا وضاقوا ذرعاً بسياسة الحكومات والقيادات الغربية والشرقية وأصبحوا يمقتونها ويكرهونها كرهاً شديداً.

إن وجود هذا الفراغ – عدم وجود حركة إيمانية دعوية إيجابية قوية، ومجتمع قوي سليم من أدواء العصر الحديث والحضارة المادية الراعنة، يقوم على تعاليم الإسلام وقيمه ومثله – خطر كبير على الوجود الإسلامي، وعلى العقيدة الصحيحة والحياة الإسلامية، فإن وجود الفراغ في شيء ضروري وفي مصحلة بشرية شيء غير طبيعي لا يصلح للبقاء طويلاً، وقد يسبب ذلك نشوء حركة منحرفة زائفة، فاسدة العقيدة والمنهج، سلبية هادمة مدمرة، ويعرف الدارسون لتاريخ الديانات والدعوات والحركات، وللتاريخ العام، أنه إذا وجدت هذه الحركة المنحرفة واقترن نشاطها ودعاويها بالتضحيات والمغامرات، وبالتقشف ومظاهر الزهد وهتافات التحدي للطاقات الكبيرة ومواجهتها لتهديداتها وأخطارها، بشجاعة وصمود، ونقدها للأوضاع الفاسدة السائدة في بعض أجزاء العالم الإسلامي التي لا تتفق مع تعاليم الإسلام وقيمه ومثله – ولو كان في ذلك نصيب كبير من الدعاية والمظاهرة ووسائل الإعلام الجبارة – كان له سحر على النفوس – خاصة في أوساط المتعلمين وأنصاف المتعلمين، المتألمين من الواقع المرير الذي تورطت فيه بعض المجتمعات الإسلامية – سحر لا يبطله وعظ واعظ، أو مقال لكاتب، أو استدلال منطقي أو بحث علمي، يشهد بذلك تاريخ الخوارج في القرن الإسلامي الأول، وتاريخ الباطنية والفدائيين في القرن السادس والسابع الهجريين، وحكايات حسن بن الصباح وما كان يجري في مركزه قلعة “الموت” وتاريخ كثير من الحركات العسكرية الثورية التي ظهرت باسم قلب الأوضاع الفاسدة باسم الإسلام والإصلاح كذباً وزوراً أحياناً كثيرة، وبعض الحركات والثورات المعاصرة التي استطاعت أن تجند ألوفاً من الشباب في تحقيق مآربها السلبية وأهدافها الخطيرة، يضحون بحياتهم في سبيلها متطوعين مندفعين، وقد استرعت انتباه العالم واستجابت لها بعض أوساط المعنيين باليقظة الإسلامية والحالمين لمجد الإسلام وعظمته، من غير أن ينقدوها نقداً بريئاً جريئاً في ضوء النصوص القرآنية والعقائد الإسلامية، والدراسات المقارنة الأمينة للفرق المنتحلة للإسلام.

ويعرف قادة المسلمين ومفكروهم، أن السيل لا يمسكه إلا سيل مثله، والتيار لا يدفعه إلا تيار أقوى منه، وواقع العالم الإسلامي – ومعذرة – اليوم في الجمود والاستنامة والإخلاد إلى الراحة، وعدم وجود دعوة إيمانية قوية، وروح التضحية والفداء في سبيل العقيدة الصحيحة، والأهداف الصالحة، وعدم اكتفائهم العسكري والفكري، نذير خطر دائماً، وممهد الطريق للوقوع في شبكة هذه الدعوات المنحرفة الزائفة التي يجد فيها شباب المسلمين والمتذمرون من الأوضاع الحالية طلبتهم ومنشودهم، وما يرضى طموحهم ويزيل قلقهم، وإن كان ذلك {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [ سورة النور: 39]، ولكنها نفسية الإنسان وتجربة الأمم، والحقيقة الأليمة التي يجب أن ينتبه لها كل معنى بحاضر الإسلام ومستقبله، وسلامة العقيدة وصحة التفكير، والإيمان بالله ورسوله وتعاليمه.

وأختم هذا الحديث القصير بقوله تعالى الذي خاطب فيه المجموعة الصغيرة من الأنصار والمهاجرين التي حثها على المؤاخاة وربط بها مصير العالم والإنسانية:

{إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبيْرٌ}[ سورة الأنفال: 73]

×