لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

Test
16 سبتمبر, 2023
الطاقة الحقيقية
16 سبتمبر, 2023

لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

لقد كان المسلمون في تاريخهم الأسبق غير راضين بأن يكون غيرهم أئمة البلاد والعباد، أما هم فيبقوا تحت قيادة غيرهم في الركب السائر يسيروا أينما يسير، ويلتزموا كل ما يلتزم من مناهج وطرق في مسالك الحياة، بل إنما كانوا قادة في الأمم يخطون للعالم طرق سيره في الحياة، ويهدونه للمنهج الرشيد الذي اختاروه وارتضوا به، والذي لا يوصل أحداً إلا إلى الخير الدائم والعز الخالد، ولقد علمت الإنسانية وعرفت منهم ذلك وأحبته وأقبلت عليه إقبالاً عظيماً من قلوبها ونفوسها، وكان ذلك لا لخوف منها لقوتهم، ولا لكراهية منها لسلطانهم، فإنما يدل تاريخ فتوح المسلمين ودخولهم في البلاد المغزوة على أنهم داموا محبوبين في نفوس الشعوب المفتوحة كلما غادروها ودعتهم الشعوب بدموع من عيونها وصور رائعة من التقدير لهم من قلوبها.

وكان ذلك بفضل الرسالة الخالدة الماجدة التي كانوا يحملونها إلى كل بلد يذهبون إليه، وبفضل الروح الإنسانية الفاضلة التي كانوا يملكونها في كل جهدهم ومعاملتهم، وبفضل ذلك الإيثار الذي كان يتسم به كل عملهم، كانوا يرون إلى المنافع الخسيسة بنظرة ازدراء واستخفاف، وكانوا ينظرون إلى المال كمجرد وسيلة من الوسائل، قد يستعاض عنه غيره، وكانوا يعقدون بعلو النفس والتضحية للهدف كل اهتمامهم، فقد علموا أن وسائل القوة وإمكانيات الانتصار لا تجدى أبداُ ما دام لا يكون قلب الإنسان مليئاً بالهمة النزيهة السامية، وما دام لا يكون نظره أسمى من أن يستهويه زخارف اللذة ومظاهر الجمال الزائف، فكانوا متحلين بالعظمة الإنسانية والنزاهة الفاضلة، فكانوا قادة لا مقتدين، وكانوا هداة غير منحرفين، كانوا رجالاً يعملون إذا قالوا، ويفون إذا عاهدوا، يفضلون الموت مع الكرامة على الحياة مع الذل والمهانة، ولكننا نحن أخلافهم الذين ناموا من بعدهم نوماً طويلاً، فانتهزت الشعوب الأخرى الفرصة السانحة، ونفضت من جوانبها غبار التخلف والكسل، وكسبت التقدم والازدهار في مجال القوة والإمكانيات المادية، ألم يكن لازماً إذن للمسلمين عندما استيقظوا من نومهم أن ينهضوا، ويجدوا، ويسابقوا الشعوب القوية في مضمار كسب القوة، وكسب الإمكانيات واستغلالها لخير الإنسانية لأن كل ذلك في الأصل تراثهم القديم، وهم أحق باستعادتها لا أن يغفلوا عنها فتلهوا بمظاهر الحياة الخلابة التي بهرت نفوسهم وأبصارهم، والتي استعملتها أوربا كوسيلة إغراء وخداع وتلهيتهم عن العكوف على ما ينفعهم نفعاُ جدياً لائقاً في دنياهم ودينهم.

ولكن مع ذلك يجب على المسلمين الفهم والتعقل حتى لا تطول عليهم مدة مسكنتهم وزوالهم، ولا يمكن العمل بكل ذلك إلا بالعودة إلىالطرق التي جربها أسلافهم، وكسبوا بها كل عزة وفائدة، وهو تجريد الحياة أولاً وتطويعها لمناهج الجد والشظف، والتضحية وروح الطموح، وسمو النفس، واختيار مظاهر الرجولة والجد والجهاد، فإنما لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

(العالم الإسلامي اليوم قضايا وحلول للشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، ص: 229)

×