الحج مخيم سنوي للتربية على الطاعة والانضباط في الحياة

كل إناء بما فيه ينضح
26 يونيو, 2022
دور السلوك الحسن في كسب القلوب
2 أغسطس, 2022

الحج مخيم سنوي للتربية على الطاعة والانضباط في الحياة

محمد وثيق الندوي (مدير التحرير)

الحج طريقة مؤثرة للتربية على الطاعة الكاملة والخضوع الكامل لأمر الله تعالى، والحج فرصة نادرة لترويض النفس وتدريبها على التواضع والهدوء، والخضوع والصفاء، والبر والإحسان، والعفو والصفح، والحلم والإيثار، والصبر وتحمُّل الأذى لنيل مرضاة الله.

والحج بمناسبة وأركانه وأعماله كما كتب المفكر الإسلامي الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله في كتابه “الأركان الأربعة”: تمرين وتمثيل للإطاعة المطلقة، وامتثال للأمر المجرد، وسعي وراء الأمر، وتلبية وإجابة للطلب، فالحاج يتقلب بين مكة ومنى، وعرفات والمزدلفة، ثم منى ومكة، ويقيم ويرحل، ويمكث وينتقل، ويخيم ويقلع، إنما هو طوع إشارة، ورهين أمر، ليست له إرادة ولا حكم، وليس له اختيار ولا حرية، ينزل بمنى، فلا يلبث أن يؤمر بالانتقال إلى عرفات، من غير أن يقف بالمزدلفة، ويقف بعرفات، ويظل سحابة النهار، مشتغلا بالدعاء والعبادة، وتحدثه نفسه بالمكث بعد الغروب، ليستجم ويستريح، فلا يسمح له بذلك، ويؤمر بالانتقال إلى المزدلفة، ويقضى حياته محافظًا على الصلوات في وقتها، ويؤمر بترك صلاة المغرب في عرفة لأنه عبد لربه، وليس عبدًا لصلاته وعاداته، فلا يصليها إلا بالمزدلفة جمعًا مع العشاء، وتطيب له الإقامة في المزدلفة، فيريد أن يطيلها، فلا يسمح له بذلك، ويؤمر بالانتقال إلى منى”.

فإن الحج نزول وارتحال، ومكث وانتقال، وعقد وحل، ونقض وإبرام، ووصل وهجر، لا خضوع لعادة، ولا إجابة لشهوة، ولا اندفاع للهوى، ويمنع في الحج منعًا حاسمًا جازمًا من الاستجابة للغرائز النفسية، وشهوة الفرج، وكل ما يتصل بها ويمهد لها أو يدعو إليها، من قول أو فعل أو إشارة، كما يفرض الحظر على اقتراف أي ذنب ومخالفة شرعية، لأنه توجد مغريات ودواعي لكل ذلك، فمنع الله تعالى بقوله في كتابه المجيد القرآن الكريم: “الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى” [البقرة:197].

وكل من يؤم بيت الله العتيق يحتاج إلى الصفاء والحيطة، والتقوى وضبط النفس، وكظم الغيظ وتحمُّل الأذى، وإلى استغلال الفرصة السانحة له، والاستفادة منها، والجدال والخصام في أغلب الأحيان يسبب لإضاعة الوقت، ويذهب الصفاء، ويؤدي إلى إثارة المشاحنات والخصومات والمنازعات من أجل السبق في أداء مناسك الحج عند استلام الحجر الأسود، والملتزم للالتصاق به، والمقام الإبراهيمي، وعند السعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمرات، ولذلك نهى الله تعالى عن الجدال في الحج.

ومن آداب الضيافة لدى الناس أن يكون الضيف ملتزمًا بالأدب والهدوء والانضباط واللياقة، فكيف بمن يكون في بيت الله وضيافته ووفادته، وكيف إذا كان المضيف في غاية الإكرام والتنعيم لضيفه ونزيل بيته؟!، فالإساءة في مثل هذا المقام جريمة لا تغتفر، بل وفضيحة تسير بها الركبان، ولذلك منع الله تعالى من السب والشتم، وارتكاب أعمال غير لائقة خلال تأدية أركان الحج ومناسكه، من الفسق والفجور، والرفث والمجون.

وكل من يلتزم بهذه الآداب القرآنية للحج يعود كيوم ولدته أمه، ويعود وقد أصبح من الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، ويعود وقد أصبح يدفع السيئة بالحسنة، ويعود وقد ألزم نفسه بكف الأذى عن الناس، بل وبالتغاضي عن أذاهم، وأما من خالف آداب الحج،وجادل وخاصم وآذى وفسق وفجر، فما استفاد من حجه وما ضمنه حجًا مبرورًا عند الله مقبولاً، بل “ما حج هو وإنما حج الجمل”.

والحج فرصة ذهبية لتدريب المسلم على الأمن والسلام وإشرابه روح السلام، فهو رحلة سلام إلى أرض سلام في زمن سلام، لأن الحاج لا يخرج إلا قاصدًا لربه الله تعالى وبيته العتيق، وأرض الحج هو البلد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، ومن دخله كان آمناً.

وفي الحج تتجلى الوحدة الإسلامية بكافة شعوبها وأعراقها وأقطارها: وحدة في المشاعر والشعائر، ووحدة في القول والفعل، لا إقليمية ولا عنصرية، ولا عصبية، ولا طبقية، ولا فئوية، ولا حزبية، وإنما الجميع مسلمون، وبرب واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرأون، ولرسول واحد يتبعون، ولأعمال واحدة يؤدون، ولهدف واحد يسيرون.

وفي الحج تدريب على تحمل المشاق، واحتمال الشدائد والمتاعب، والصبر على المكاره والمنغصات، إذا السفر للحج ركوب للمشقات، ومفارقة للأهل والوطن، وتضحية بالراحة المتاحة، والعيِش الرغيد، والمال المكتسب بكد اليمين وعرق الجبين.

والحج شحن لبطارية الروح والإيمان، يملأ جوانح الحاج بالتقي والخشية من الله، والعزم على طاعته، والندم على معصيته، والإخلاص والعفاف، ويغذي فيه عاطفة الحب لله ولرسوله، فيعود الحاج أصفى قلبًا، وأطهر مسلكًا، وأقوى عزيمة على الخير، وأصلب عودًا أمام مغريات الشر، وينشئه الحج خلقًا آخر،ويعيده كيوم ولدته أمه.

والحج عبادة تستغرق من الحاج كل كيانه، ففي الحج نصب وتعب، ومجاهدة ومعاناة، وصلاة ودعاء، وذكر وفكر، وحلم وصبر، ونفقات وصدقات، وقد وصفه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه جهاد لا قتال فيه، فكما إن الحج دورة ذكر مكثفة، ودورة تعبدية شاملة، فإنه أيضًا دورة تدريب وتربية على الطاعة والعبادة والعبودية والتضحية، والحب والفداء لله تعالى، وعلى الانقياد والانضباط، والإخلاص والإيثار، وضبط النفس، وكظم الغيظ، وتحمل الأذى، والسلوك الحسن مع الناس في الحياة.

×