منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (15)

الشيخ أبو الجلال الندوي
14 نوفمبر, 2022
منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (16)
26 ديسمبر, 2022

منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (15)

الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

التعريب: محمد خالد الباندوي الندوي

ثم يتحدث عن سيطرة الديانات الأخرى في المملكة العربية ويذكر نتائجها السيئة وأخطارها الكبيرة:

“وقد قضى الله أن تكون هذه الجزيرة حرمًا للإسلام وحمى له، وأوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أوصى به في آخر عهده بالدنيا، فقال: “لا يجتمع بجزيرة العرب دينان”، وقال: “أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب”، وعدم اجتماع دينين وإخراج اليهود والنصارى من هذه الجزيرة الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، يحمل أبعادًا ومعاني أوسع مما يبدو ظاهرًا من اللفظ، وخطر نشوء جيل ليس بينه وبين الحرم ومسجد الرسول ورسالتهما تجاوب وانسجام، وتفاهم، واتفاق، بل بينهما بالعكس تباعد وتجاف، خطر لا يوجد له نظير في التاريخ الماضي، ووجوده – لا سمح الله بذلك – خطر على سلامة البلاد وكرامتها، يحرك الغيرة الإلهية كما وقع ذلك مرارًا في التاريخ”.

(كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب:62)

وإن تلك الرسالة كتبها الشيخ الندوي سنة 1976م، ثم ظل هو يستعرض حالة الجزيرة العربية ويسافر إليها ويطول له القيام فيها لمدة أسابيع وشهور، ويقوم باتصال مختلف الطبقات من الناس، وجد الشيخ الندوي أن المملكة مادامت تتجه خطوات غير بريئة وقد قطعت أشواطا بعيدة في المادية الجامحة وتقليد الحضارة الغربية، وكاد المجتمع ينهدم أساسه، ويسترخي بنيانه، فشعر بحاجة أكيدة إلى الحديث عما تسرب إلى المملكة من عوامل الفساد والدمار مع قادة المملكة، فكتب رسالة مفصلة تشتمل على ثمانية عشر صفحات أسهب الكلام فيها عن حالة المملكة العربية السعودية، وإنها تنبئ عن بصيرته النافذة ونظره البعيد المدي، ودراسته العميقة الجادة لأوضاعها، وقد خاطب الشيخ الندوي بأسلوبه البليغ المؤثر الناصح الطبقة الحاكمة فيها وخاصة وجه الخطاب إلى ولي عهدها وملكها.

تحدث فيه الشيخ عما تحمل الجزيرة العربية من مكانة مرموقة في قلوب المسلمين ومدى ارتباطهم بها واعتبارهم مركز القيادة العالمية في مجال العقيدة والدين والسياسة والشريعة، كما تحدث عن حبه العميق لهذه الجزيرة وحضارتها العريقة، ثم أشاد بالمملكة العربية السعودية وإنجازاتها الواسعة النطاق في خدمة الحرمين الشريفين وضيافة القاصدين إليهما حتى تطرق إلى صلب الموضوع فلفت عناية القادة إلى حقائق حاسمة حصرها في ستة من الأمور، ثم ذكر تفصيلها على الترتيب، وهي كما يلي:

(1) وسائل الإعلام (2) الأفلام الماجنة وتفشي البرامج التي تفسد الأخلاق (3) الصحافة (4) الشغف الزائد بأنواع من اللهو واللعب وإشراف الحكومة عليها (5) ارتفاع مستوى المعيشة (6) رفاهية العيش واتجاه الشباب إلى مواد التسلية والترويح.

وقد أطال الشيخ كلامه عن هذه الركائز الأساسية وقام –بصراحة- بتحديد عوامل الفساد والدمار التي تسربت في المملكة وأشار إلى ما يدرأ الخطر وينقذ البلاد ويصون كرامتها وحرمتها في قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

وإن تلك الرسالة التي كتبها الكاتب بعنوان ” إلى أين تتجه الجزيرة العربية وإلى أي غاية تنتهي” وأرسلها إلى قادة المملكة، وخاصة الملك خالد بن عبد العزيز بيد الشيخ ابن باز والشيخ عبد الله بن حميد، وقد قرأها الملك خالد بنفسه، وقد انتقل إلى جوار الله بعد فترة قصيرة، وتولى زمام المملكة بعده الملك فهد بن عبد العزيز.

مما يقضى له الأسف أن نشبت الحرب بمؤامرة من أمريكا بين بلدين شقيقين: العراق، والكويت، وقد تمخضت الحرب عن تدخل أمريكا في المواقع الدفاعية في المملكة العربية السعودية والعراق ودخلت القوات الأمريكية في كلا البلدين،وإن ذلك وصمة عار على جبين العالم العربي، وقد حاول الشيخ الندوي إرشاد الحكام ومن يتولون زمام القيادة في العالم العربي إلا أنه لم يجد فيها آذانا صاغية ولا قلوبا واعية، وجرت الأيام في سيرها الطبيعي،وظلت المملكة وأهلها في غفلة تامة، وفي اقبال متزايد على الملذات الدنيوية دون تفريق بين الحلال والحرام، وبالجملة تدهورت حالة العالم العربي دينا وخلقا، فكتب الشيخ الندوي رسالة قوية مؤثرة وجهها إلى جلالة الأمير فهد بن عبد العزيز، دعا فيها إلى إصلاح ما وقعت عليه المملكة من سير غير صواب، والقيام بالمحاولة الجادة لجعل المجتمع مثاليا كما لفت عنايته إلى مسؤليته الحقيقية التي ألقيت على كواهله بوصفه ملكا لهذه المنطقة، يقول الشيخ الندوي:

“فإن شعور هذا الكاتب الفقير – إلى رحمة الله – بواقع العالم الإسلامي الأليم، وما يواجهه مركز الإسلام – الجزيرة العربية بما فيها الحرمان الشريفان – والأقطار الإسلامية من تحديات وأخطار، يدفعه- وهو يتشرف بتقديم بعض مؤلفاته إليكم- إلى توجيه هذه الرسالة المخلصة إلى من يعتبره الكاتب أجدر الناس وأقدرهم لمواجهة هذا الواقع الخطر ومعالجته، ولو استطاع أن يضع قلبه الخفاق ومخه المتألم في هذه الرسالة المتواضعة،ويكتبها بدمعه ودمه بدل الحبر الذي يكتب به، ولو استطاع أن يستغني عنها بالمثول والحديث الشفوي لفعل”. ( في مسيرة الحياة: 3/100).

يقول فيها الشيخ الندوي معلقا على ما يجري في الجزيرة العربية من التدهور الخلقي والانحطاط في القيم الإسلامية العربية:

” إن العالم الإسلامي اليوم بصفة عامة والحزيرة العربية والبلاد المقدسة بصفة خاصة تمر اليوم بمرحلة دقيقة عصيبة مصيرية،لا تتحمل تأخير ساعة ولا ادخار مجهود في مواجهة هذا الواقع، ومعالجة هذا الوضع الخطير، وقد تقام الخطب وكاد قول الله يصدق على الوضع الحاضر:” بلغت التراقي وقيل من راق”. (في مسير الحياة:3/100).

ثم لفت عناية جلالة الملك إلى أمرين مهمين لا محيص عنهما في إصلاح البلاد العربية وخاصة الجزيرة العربية فقال:

“أولاً: عدم وجود مجتمع إسلامي مثالي يرضاه الله تبارك وتعالى، ويكون نموذجًا، بل مرآة للتعاليم الإسلامية في العقائد أولاً، ثم في الأخلاق والمعاملات وشعب الحياة ثانيًا، يتنفس فيه الإنسان في طمأنينة وسكينة، ويشمّ فيه رائحة الإيمان، ويشعر بالسعادة الحقيقية، وكأنه انتقل من الجحيم إلى الخلقية تطبّق عمليًا، ويرى الإسلام يسعى على قدميه، ويتكلّم بلسانه، ويسود العقائد والمعاملات؛ ذلك المجتمع المثالي فُقِد اليوم تقريبًا، وإعادته من حاجات الإسلام، بل من حاجات العالم الأولى”. (في مسير الحياة:3/101).

“ثانيًا: والفراغ الثاني هو عدم وجود قيادة إيمانية دعوية قوية في العالم الإسلامي، تقترن بصفات الرجولة والطموح، وعلو الهمة وبُعد النظر والقدرة على مواجهة القوى العالمية الرئيسية القائدة، التي تملّكت زمام القيادة البشرية، وأصبحت تتحكم في مصاير الشعوب والأقطار الإسلامية وغير الإسلامية، من غير حق ومبرّر”. (في مسير الحياة:3/101-102).

يتجلى – مما كتبه من رسائل توجيهية مخلصة إلى قادة العالم الإسلامي – قلقه الشديد وتألمه على حالة الجزيرة العربية وإفلاسها في قيمها الشريفة كما تتجلى بصيرته الثاقبة وأسلوب دعوته الهادئ الرزين.

اتخذ الشيخ الندوي مركز دعوته البلاد العربية وخاصة الجزيرة العربية التي هي قلب العالم الإسلامي، وكان يعتبر صلاح العالم الإسلامي منوطا بصلاحه،فإذا صلح صلح العالم الإسلامي كله وإذا فسد –لا حاشاك الله – فسد العالم الإسلامي كله، فصب جهوده الدعوية عليها وأولاها الاهتمام الخاص بها، وقد ظهرت نتائجها الحسنة في إصلاحات جلالة الملك فيصل – رحمه الله – التي قام بها في عهده، فقد كان علما بارزا في مجال الإصلاح والدعوة والإرشاد،وساعيا لتأسيس الرابطة الأخوية العالمية،فقد كانت الرابطة -في فترتها القصيرة -قامت بمجهودات ضخمة في تقديم الأمة الإسلامية في كافة أرجاء المعمورة،وكادت الأمال الكبيرة تتعلق بها،ولكن فوجئت الرابطة بنكبة كبيرة بشهادة مؤسسها العظيم الملك فيصل،فتوقف سيرها،وكان خبر استشهاده وقع على الشيخ كالصاعقة إلا أنه لم ييأس من رحمة ربه،وظل يوجه دعوته إلى أمثاله من القادة والزعماء في العالم الإسلامي (يتبع).

×