رجل في قمة الإنسانية

إنا لفراقك لمحزونون وفاة العلامة الشريف محمد الرابع الحسني الندوي
15 مايو, 2023
نبذة عن سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله
15 مايو, 2023

رجل في قمة الإنسانية

مبين أحمد الأعظمي الندوي

هبت نسمات رمضان الكريم المنصرم، وهي تحمل معها ذكريات وأحداثا وحكايات، بعضها سارة وجالبة للفرح، وبعضها فاجعة ومسيلة للدموع، ومن أعظم هذا النوع، وأكثره حزنًا وكمدًا: وفاة سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله، وكان إلى جانب كونه عالما جليلا، وصالحا نقيا، رجلا في قمة الإنسانية، وذروة سنام الأخلاق، وغاية التسامح والصبر، يصدقني في ذلك ويحبذ رأيي هذا من رآه عن كثب، وجرَّب أخلاقه، وشاهد صباحه ومساءه، وليله ونهاره، وتعامُلَه مع الصغار والكبار، ومع من تتلمذوا عليه، أو جلسوا إليه للاسترشاد والاستفادة، ولرأيي هذا قصة، أحكيها لقرائي: ذات يوم، وكنت في مقتبل عمري، اشتريت كتاباً للكاتب ابن الحسن العباسي رحمه الله، ولا أعلم ما فيه، فبدأت أقرأه، فقرأت فيه مما قرأته، أن الشاعر الهندي المعروف بأمير خسرو – وهو من مسترشدي الشيخ نظام الدين أولياء رحمه الله – لم يغتب أحداً في حياته، ولم يستمع إلى غيبة أحدٍ كذلك، فأخذتني الدهشة، وتملكني العجب، ولو صرحت لقلت: لم تقبل نفسي ذلك، وظننت أنه مجرد مبالغة، أو قولٌ صاغه الحب، أو حسن الظن به، كيف أن رجلاً من القرون المتأخرة، البعيدة عن القرون المشهود لها بالخير، وهو شاعر، مرهف الحس، واسع المعرفة، يخالط الناس، ويرى فيهم ما يكون عليه الإنسان من إيجابيات وسلبيات، ومع ذلك، إنه لم يغتب أحدًا ولم يستمع إلى غيبة أحد، كيف يمكن هذا، والله هذا مستحيل، غير ممكن!!، وكنت على ذلك، إذ وفقني الله تعالى أن أنتسب إلى دار العلوم لندوة العلماء، وأن أرى الأستاذ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله بأم عيني، وأتعلم عليه، وأحضر مجالسه، وأتعامل معه كتلميذ له أولاً، ثم كمدرس تحت رئاسته ثانياً، فلما رأيته، أيقنت أن هذا ممكن، بل إنه حصل بالفعل.

كانت مساءلة الركبان تخبرنا

عن جعفر بن فلاح أطيب الخبر

ثم التقينا فلا والله ما سمعت

أذني بأحسن مما قد رأى بصري

 فإنني لم أره يوماً، يذكر أحداً بالسوء، أو يناله بلسانه، أو بقلمه، أو يقطب له جبينه، أو يصعر له خده، أو يعبس له وجهه، فكان هشا بشا لكل من يحضره، وينصحه بما هو خير له. وفي يوم من الأيام، كنت حاضراً عنده، وحوله عدد من الطلاب والعلماء، وبعض من العوام، إذ بادر أحد منهم يسأل عن رأيه في عالم معروف، له شذوذ في بعض آرائه، واختلاف فيها عن الجمهور: ياشيخ! مارأيك فيه؟ وبأي عين تنظر إليه؟ فتغيرت قسمات وجهه، وقال: لاتتكلم عن الآخر، فلا ينبغي لنا ذلك، تكلم عن علم، واسأل فيما يتعلق بك.

وفي زمن الطلب كنت أكون في بعض الأحيان شديد الإلحاح في الإشكال، ما ينتج عن غضب بعض الأساتذة، ووقع مثل ذلك مرة مع الأستاذ السيد محمد الرابع الحسني الندوي، وكانت الحصة لجغرافية العرب، وهو يُدرسنا كتابه ” جزيرة العرب” فقمت بالإشكال، وقلت: كتبتم هكذا، وجاء في الكتاب الفلاني غير ذلك، وألححت في الإشكال، والأستاذ يرد على سؤالي، وأنا أستزيده، ولكنه – غفر الله له وجزاه عني وعن الأمة خير الجزاء– لم يزجرني، ولم يغضب علي، ولم يُنقصني، ولم يقل بكلمة تجعل الطلاب يضحكون عليَّ، كما يفعل بعض المدرسين، ولم يظهر لي جمال هذا السلوك إلا بعد ما انكشف لي بعد دراسة كتب أخرى أن الأستاذ كان محقا، وكنت على الخطأ.

ومما رأيته من أخلاقه: أنه لم يكن ينصح أحداً يكشف له خطأه بشكل مباشر، أو يفضحه، أو يحرجه، بل إنه يقول كلمة عامة، بحيث يستفيد منها الجميع، ويتفهم الخاطئ أنه هو المقصود الأول وهذه سنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلانٍ يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. (أبوداؤد: 4788)

و أعتقد أن من أخلاقه أيضاً أنه مع كونه صاحب قلم ممتاز، مع شعبية واسعة جداً، لم يأت في كتاباته بألفاظ صعبة، ومصطلحات مشكلة، وتعبيرات عويصة متنوعة، بهدف إبراز براعته في الكتابة، وإظهار تفننه فيها. لأنه لم يكن يحب أن يجد قارئه أية صعوبة في الوصول إلى الغرض الذي يتوخاه من خلال كتاباته، فإن الأسلوب الصعب الدقيق لا يكون في غالب الأحوال إلا لمتعة ذهنية، وإعمال فكر في اللفظ، دون المعنى، وربما يخل بالموضوع، ويحول دون التوصل إلى الهدف، أويجعل القارئ يشعر بالملل، فيتركه إلى غيره، فلا يحصل المقصود، ولا يتم الغرض.

و يا حبذا شخص اجتمع فيه العلم والعمل، والأدب والفكر! وكان الأستاذ رحمه الله على ذلك، فكان من العلماء الصالحين والعابدين الزاهدين، سائر على منهج السلف الصالح، وطريقةِ العلماء الربانيين، فرأيتُه أكثر من مرة، وهو منشغل بالنوافل بعد صلاة المغرب لوقت طويل، يعيش متصفاً بالزهد والعفاف، والتجمل والغنى، لا يأبه للدنيا، ولا يطمع فيها، ولا يخشى فواتها. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه دار النعيم، وألهم أهل بيته وذويه وتلامذته والمنتسبين إليه الصبر والسلوان.

×