قراءة في كتاب “الغزل الأردي محاوره ومكانته في الشعر” للعلامة الشيخ محمد الرابع الندوي

كتاب “محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين”
17 يوليو, 2022
“لمسات من السيرة النبوية”
31 أكتوبر, 2023

قراءة في كتاب “الغزل الأردي محاوره ومكانته في الشعر” للعلامة الشيخ محمد الرابع الندوي

شمس الدين درمش

يلقي هذا الكتاب الضوء على فن الغزل في الشعر الأردي لمؤلفه العلامة الشيخ محمد الرابع الندوي، حفظه الله تعالى. يقول في مقدمته: “إن صنف الغزل هو من أصناف الشعر الوجداني في كل لغة من اللغات، وهو صنف تصبو إليه النفوس بصورة خاصة، وذلك بسبب تأثيره الوجداني الزائد، وتلتفت إليه الأذهان، ويجد فيه الإنسان متعة لنفسه الوجدانية. واقتصر في أكثر اللغات بإطار الحب والغرام، وصلة الرجل بالمرأة صلة غرامية. ولكنه توسع في اللغة الفارسية، واتبعتها اللغة الأردية في توسعه. فقد اتسع إطار الغزل في هاتين اللغتين للتعبير عن أصناف أخرى أيضاً، وذلك في المعاني الوجدانية من بين المعاني الأخرى. وما أكثرها في حياة الإنسان!.” (ص3).

في هذا النص أوضح لنا المؤلف عن الفارق في دلالة (الغزل) بين الأدب العربي، والآداب الأخرى الفارسية والأردية، وأضيف التركية أيضاً، ففن الغزل أوسع مجالاً فيها من الأدب العربي الذي يقتصر على التعبير عن معنى الحب بين الرجل والمرأة بقسميه العذري والصريح.

وأصل الكتاب مقالات نشرها العلامة الشيخ محمد الرابع الندوي في الملحق الأدبي بصحيفة الرائد التي تصدرها ندوة العلماء في الهند، ثم جمعها في هذا الكتاب. (ص4).

وحظي الكتاب بمقدمة ضافية نافعة للعلامة الشيخ محمد واضح الندوي؛ رحمه الله تعالى، كتب فيها مقارنة بين الغزل في الأدب العربي، والغزل في الأدب الفارسي والأردي، وذكر أن أبا تمام ضم في حماسته نصوصاً من الشعر الغزلي لاحتوائها على معاني الإباء والشهامة والرجولة لشعراء مثل جعفر بن علبة الحارثي، وأبي العطاء السندي. (ص7-8).

وينقل الشيخ محمد واضح عن الشاعر الهندي الكبير مولانا ألطاف حسين حالي من كتابه (مقدمة شعر وشاعري) رأيه في الغزل الأردي، إذ يقول: “إن الغزل لا يتناول أي موضوع متواصلاً، بل يشتمل على أخيلة متفرقة في الأبيات المختلفة. وقد بدأ هذا الصنف في إيران، ثم راج في الهند، وقد كان في البداية يشتمل على موضوع الحب، ولكن دخلت فيه موضوعات أخرى، كالتصوف والأخلاق والمواعظ، وهو عبارة عن انفعال، وهو محدود الأبيات”. (ص10-11).

ويبين الشيخ محمد واضح جانباً آخر من شعر الغزل الأردي فيقول: “وقد يكون الغزل الأردي تعبيراً عن انطباع أو انفعال لمشاهدة شيء أو وقوع حادث مؤثر، فيعبر عن أحاسيه ومشاعره كما يقول الشاعر الإسلامي محمد إقبال بعد ما رآه من ضعف العالم الإسلامي من فقدان العاطفة والحب، وهو مصدر البطولات والمعجزات: لا بد أن يعيش العقل والعلم في أحضان الحب وإشرافه وتوجيهه. ولا بد أن تسندَ الدينَ وتغذيَه عاطفة قوية، وحب منبعه القلب المؤمن الحنون. فإذا تجرد الدين عم العاطفة والحب أصبح مجموعة من طقوس وأوضاع واحكام لا حياة فيها لا روح، ولا حماسة ولا قوة. هذا الحب الذي صنع المعجزات، هوالذي ظهر في صدق الخليل، وصبر الحسين، وهو الذي تجلى في معركة بدر وحنين”. (ص11-12).

ويضيف الشيخ محمد واضح في مقدمته لكتاب (الغزل الأردي)، قائلاً: “ولم يخل الغزل في اللغة الأردية من عناصر سياسية، ومن التهكم والتعريض، والشكوى على الأوضاع. وقد كثرت مثل هذه القصائد في عهد الاستعمار الإنكليزي، وبعد تقسيم الهند إلى بلدين، ووقوع المجازر. وقد استغل الشعراء هذا الصنف للتعبير عن أحاسيسهم، وأحاسيس الشعب، ويجد القارئ نماذجه في البحث”. (ص13).

في التعريف بكتاب يحسن الاطلاع على مقدمته، وعناوين محتوياته، أما وقد أخذنا موجزاً من البداية فلنتعرف على عناوين محتوياته.

جعل المؤلف كتابه (الغزل الأردي) في ستة عناوين رئيسية، وتحت كل عنوان موضوعات فرعية.

العنوان الأول: الشعر الغزلي ودوره في العربية والفارسية وغيرهما، وفيه الموضوعات الآتية: الشعر في الكلام الإنساني وأهميته. صنف الغزل وطبيعته. المنهج العربي للغزل: النسيب والتشبيب. الانفعالات النفسية في الغزل. اتجاه جديد في الغزل. نظام معين في الغزل. نظام الشعر القصصي غير نظام الغزل. الربط في الغزل. عناصر الغزل. الغزل ينقسم إلى قسمين. تطور أسلوب الغزل حسب البيئات والظروف. الطريقة الرمزية في الغزل. الغزل الروحاني.

العنوان الثاني: أمثلة من شعراء الغزل في الفارسية، واختار فيه الشعراء: جلال الدين الرومي، والشيخ سعدي، وأمير خسرو الدهلوي، وخواجه حافظ الشيرازي، وعبدالرحمن جامي، والشاعر فغاني. ثم تحدث عن الفرق بين الغزل العربي والغزل الفارسي.

وفي (الفرق بين الغزل العربي والغزل الفارسي) يقول: “هذه هي التطورات المختلفة التي مرت على المنهج الغزلي في الشعر الفارسي، ولا شك أنها بدأت منذ أن كان الغزل تابعاً للغزل العربي الذي كان متجسداً إلى حد بعيد في التشبيب الذي كان أسلوبه ذكر الديار، وارتحال الحبيب، ووصفه وصفاً صريحاً مع بعض المعاني العامة المتصلة بوقائع حياة الشاعر في بيئته أو أسرته”. (ص46).

ويقول عن تطور الغزل في الشعر الفارسي: “لقد كان زعماء الشعر الغزلي المذكورون قدوة في الغزل الراقي المتوسع في مضمونه، الرائع في لفظه لمن جاء بعدهم، فمن السنائي والرومي استلهم الغزلُ الوجدانَ الروحاني الفلسفي، واستلهم من حافظ بيان الشعور النابع من واقع الحياة والتفكير والتأمل الفلسفي مع عرض الانطباعات الوجدانية في تعبير سهل رقيق برمزية غزلية رائعة بلغ بها الشعر إلى شيء من الإلهام اللطيف والبيان الساحر”. (ص47).

العنوان الثالث: شعر الغزل في الأردية، وكتب فيه عن الموضوعات الآتية: بداية الشعر الأردي. غلبة الطابع الفارسي. موضوعات الغزل الأردي. منهج الشعر الغزلي في اللغة الأردية. أهمية الغزل في الشعر الأردي. الغزل الأردي في مجالات الحياة الأخرى. تصوير الحياة الإنسانية في الغزل الأردي. التثبت بالاستعارة والكناية. نماذج لجانب الصبوة اشتياقاً وحرماناً.

يقول العلامة الشيخ محمد الرابع عن منهج الشعر الغزلي في اللغة الأردية: “وفي الشعر طرق الشعراء خمسة أصناف كبيرة بالإضافة إلى أصناف جانبية أخرى. وهذه الأصناف الخمسة هي: الغزل المشتمل على النسيب والتشبيب والمقطوعات الغزلية المعبرة لانطباعات ومشاعر عاطفية لأحوال طارئة في الحياة. والصنف الثاني هو شعر المديح الذي يسمى بالقصيدة. والصنف الثالث هو الرباعي الذي يشتمل على أربعة أشطار شعرية معبرة عن خيال أو انطباع خاص. والصنف الرابع هي القطعة التي تشبه في طريقتها بيت الرباعي. والصنف الخامس هو الشعر التمثيلي أو القصصي الذي يعبر عن حوادث التاريخ ويسمى بالمثنوي”. (ص53).

ويتبين لنا من هذا التصنيف الفرق الواسع بين دلالة شعر الغزل في الأدب العربي ودلالته في الشعر الأردي والفارسي وغيرهما من آداب الشعوب الإسلامية الشرقية خاصة.

العنوان الرابع: نماذج للغزل الأردي في دوره الأول: ومثل المؤلف العلامة محمد الرابع لهذه المرحلة بالشعراء؛ الميرزا مظهر جان جانان، والميرزا محمد رفيع سودا، وخواجه مير درد، ومير محمد تقي مير، ومحمد إبراهيم ذوق ونموذج من غزله، والملك بهادر شاه ظفر، والحكيم محمد مؤمن خان مؤمن، والميرزا أسد الله خان غالب ونموذج من كلامه.

ولنأخذ نموذجاً من غزل محمد إبراهيم، إذ يقول:

“أيتها الشمعة المضيئة إن حياتك قاصرة بليلة واحدة، فسواء عليك أن تقضيها ضاحكة أو باكية.

لقد جاءت بي الحياة فجئت ويذهب بي الأجل فأذهب، جئت لأنه جيء بي واذهب لأنه يذهب بي.

لقد تمادى بي الانزعاج إلى أن بدأت أقول: أريد أن أموت، ولكن إن لم أرتح بعد موتي أيضاً فماذا سأفعل!؟” (ص81-82).

العنوان الخامس: الغزل الأردي في عهد الأحداث والاستعمار ورجالات الغزل فيه: تحدث العلامة محمد الرابع تحت هذا العنوان عن الموضوعات الآتية: استعراض الظروف والأحوال، ألطاف حسين حالي ونموذج من غزله. العلامة شبلي النعماني. أكبر حسين إله آبادي. محمد إقبال. نظرة إقبال إلى الكون. المسلم صاحب رسالة. الفرق بين المسلم والكافر. نماذج من شعر إقبال.

ورأيت أن أختار في هذا القسم نموجاً من غزل ألطاف حسين حالي، وتعمدت تجاوز محمد إقبال مع شهرته، فالاطلاع على الجديد أنفع لهذا المقال من تكرار المعروف. يقول الشاعر ألطاف حسين حالي:

“إذا أردت أن تعرف لذة العافية والسلامة فعليك أن تـسأل عن ذلك الشخص الذي هو مبتلى بالمرض.

إن الحب والحنين لا يأتيان إلا بالبكاء والحزن، إذا أردت أن تعرف ذلك فعليك أن تسأل العيون التي تفيض بالدموع فيضاناً.

لما وجدت الصحراءساحة قاحلة لا ينفعها ربيع ولا مطر حتى أصبح الفلاح يائسا من الحرث فيها، لمكا رايتها تذكرت السقوط والهزيمة التي تواجهها أمتي.

لما رأيت (حالي) –يقصد نفسه- حزينا ويائسا سألته عن السبب في ذلك، فتبسم: ما فائدة أن تعقد الآمال بما كنت فيه من الأحوال سالفا. لقد مضى ذلك الزمن وتحول فصل الربيع إلى الخريف”. (ص97-98).

والشعراء غير العرب في آداب الشعوب الإسلامية الفارسية والأردية والتركية وربما البنغالية أيضاً يضمنون نهايات قصائهم خطاباً لأنفسهم بأسلوب التجريد، كما هنا، فكلمة (حالي) هو اسم الشاعر لا الحال التي بمعنى الذات، وغالباً يكون نصيحة، أو خلاصة تجربة في الحياة، أو ملخص الفكرة في قصيدته.

العنوان السادس: العهد الحديث وأثره في الشعر؛ وفيه موضوعان: جكر مردا آبادي، وكليم عاجز. وهذان شاعران حديثان لهما تأثير في الأدب الأردي الحديث مع شعراء آخرين.

وتحدث الشيخ العلامة محمد الرابع في هذا القسم عن أثر الحركات الفكرية المعاصرة في المجتمع الإسلامي الهندي، وفي الأدب الأردي. ومن ذلك تأثير الشيوعية والاشتراكية في الأدباء، كما كان الحال في مجتمعات إسلامية كثيرة. وأن الأدباء من ذوي الاتجاهات غير الإسلامية تجاوزوا نقد الرأسمالية من الناحية الاقتصادية، والاستعمار من ناحية احتلال البلاد، وقهر أهلها؛ إلى تهوين القيم الدينية والفكر الديني عامة، واستخدموا الإطار الغزلي. (ص114).

يقول الشيخ محمد الرابع: “ولكن المحافظين على القيم الدينية من الأدباء والشعراء قاوموا ذلك مقاومة إلى أن خف ذلك المد الفكري من هذا المناطق، واستطاع الشعراء والأدباء أن يحافظوا على التمسك بقيمهم الثقافية والأدبية السابقة، ولكل من هذه الاتجاهات الشعرية شعراء ونماذج شعرية”. (ص115).

ويقول عن شعراء الاتجاه الإسلامي: “على كل حال فقد اختار شعراء أردو في دورهم الأخير هذا الطراز في شعرهم الغزلي، ولعبوا بذلك دوراً عظيماً في المجتمع الإسلامي الأردي، وقد استعانوا به في شعرهم في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، واللهفة والاشتياق إلى زيارة الحرمين الشريفين، وقد نبغ فيهم شعراء قاموا بالإبداع على هذا الطراز مع سهولة في التعبير، واستخدام طريف للمجازات”. (ص115).

ومثل لهذه المرحلة بأسماء عديدة أبرزهم الشاعر جكر مراد آبادي، الملقب رئيس المتغزلين، -ولنقل: أمير شعراء الغزل الأردي-، فكان له باع طويل في استحداث المعاني وابتكارها في النسيب، من رقة الشعور، وشجا القلوب العجيب، وإيقاع يسحر السامعين، فبلغ من تأثيره في الشباب أن هاموا حول شعره هياما، وجاء على نفس المنهاج الشاعر نشور واحدي الذي قصر شعره برمزية جميلة بالصبوة والنسيب”. (ص117).

وأختم بنموذج من شعر أمير شعراء الغزل الأردي، إذ يقول:

“الحب وئام، والحب خصام، والحب ورود، والحب صمصام، نفس المحب أبية غيورة. ونفس الحبيب مرهفة الحس قليلة الاحتمال.

إن الحوادث والأهوال التي يلقى الناس منها عناء وعنتا كبيرا؛ هي تملأ الحياة نشاطا وحركة أيضاً.

كيف يتمكن المحب من الوصول إلى لقاء حبيبه؛ إذا كان حاله أنه يقف في ظل كل جدار في الطريق!؟. (ص118-119).

ولا شك أن لهذا الشعر في لغته الأصلية وقعاً يختلف كثيراً عمَّا نقرؤه من ترجمة نثرية تفقد الشعر جزءاً كبيراً من روائه وبهائه وصوره وأخيلته، وتذوقه في لغته الأصلية.

وأخيراً صدر هذا الكتاب عن مكتب شبه القارة الهندية لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، بمدينة لكنو في الهند، ندوة العلماء، الطبعة الأولى 1427هـ/ 2006م، في (135) صفحة من القطع المتوسط. برقم (23) في سلسلة إصداراته.

×