العلم والتعليم منبع الأفضلية للإنسان!

وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين! (2)
16 فبراير, 2020
نحن المسلمين بين الأمس واليوم! (الحلقة الأولى)
21 مارس, 2020

العلم والتعليم منبع الأفضلية للإنسان!

يبتدئ الاهتداء إلى السبيل لأفضل الخلق منذ وجود سيدنا آدم عليه السلام، الذي أكرمه الله تعالى بالتعليم وألبسه لباس الأفضلية إزاء الملائكة الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم العظيم، ويتسابقون في أداء الواجب الذي نيط بهم، من غير تريُّث أو تأخير، فكان هذا الاهتداء إلى التميز البشري بواسطة التعليم الرباني بأسماء الحاجيات التي تساعده في أداء رسالة الإنساينة التي رفعت مكانة آدم عليه السلام على الملائكة: “وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” [البقرة:31-32].

فكان التعليم هو المرجع الأساسي الأصيل لأفضلية بني آدم، ثم لما بعث الله سبحانه خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فأمره بالقراءة باسمه، وكرر الأمر بالقراءة فقال “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” [العلق:1-5]. رفع الله سبحانه منزلة الإنسان بالتعليم السماوي الذي شمل جميع ما يحتاج إليه في إحراز فضائل الإنسانية وتتصدرها القراءة باسم الرب الذي خلقه من نطفة ماء، ثم من علقة دم، ثم أخرجه إنساناً عاقلاً ذا شعور كامل بجميع ما يسعد الحياة، وضم القراءة باسمه تعالى لأنها أول أساس يقوم عليه بناء الطفل الذي يُعلم قبل كل شيء قراءة الحروف الأبجدية وتراكيبها،فإذا رسخت فيه ملكة قراءة الحروف المفردة، وتعلم الطرق التي يركب بها الحروف ويحولها إلى جمل صغيرة،يتدرج منها إلى عبارة تحوجه للتعبير عنها إلى اللسان أو إلى أداة القلم الذي يقوم بدور التعليم بأكمل وأجمل صورة من القراءة والكتابة، ولولا هذا الجمع المتزن بينهما لما تمكن الإنسان إلى دراسة ما أودعه الله تعالى في هذا الكون المتسع الهائل من أسرار وحكم، ولم يقدر على إبدائها وبيان مفاهيمها وعظمة خالقها الواحد الأوحد، الذي لم يكتف بخلق العلم البشري ولكنه خلع عليه لباس العلم والحكمة ومهد له الطريق نحو إدراك ميزة الأفضلية للإنسان والعلاقة بالتعقل الكوني الواسع في آيات القدرة المنتشرة بين الأرض والسماء والبحار والجبال وما فيها من أسرار وآيات، لا يشعر بها أي كائن سوى الإنسان الذي يقرأ ويفكر ويحاول جهده للتوصل إلى حكمة الخلق والأمر.

وتحقيقاً لهذا الغرض الأسمى كان وجود مراكز التعليم والتربية في صورة محسوسة منذ وجود مدرسة “صفة” في مسجد المدينة تحت إشراف الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ يتسع نطاقها مع أصحاب العلم والدعوة إلى الدين الإسلامي، وقامت المدارس ومراكز التعليم والتربية ونالت رواجاً على أوسع نطاق في العالم كله، وإن كان تاريخها قد ابتدأ من تعليم المرء وتربيته في ضوء كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالجامعية المتزنة بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، إلا أن جماعة من الناس ممن لم يكونوا ذوي خبرة كاملة واسعة بهذه الجامعية، حاولوا الاكتفاء بحسنة الدنيا فحسب، وتغافلوا عن حسنة الآخرة، وتناسوا أن الإنسان لا يعيش في هذه الدنيا إلا إعداداً للآخرة التي لابد منها للجميع، ومن هنا تباينت الطرق للتفكير في حقيقة الحياة، وتأسست مراكز ومدارس تعليمية لمجرد الحصول على المعاش بواسطة التعاليم والمناهج الاقتصادية، ونشأ بذلك فصل شائن بين المراكز والمدارس التعليمية، فهذه مدارس عصرية وجامعات معاصرة توجه إلى أساليب التفكير المادي فحسب، وانفصلت عنها المدارس الإسلامية التي تهتهم بالحسنتين كلتيهما، وكان يتولى شئونها المسلمون وبخاصة علماء هذه الأمة ودعاتها، وهي لا تزال في زيادة مستمرة في دول العالم الإسلامي، ومعظمها تهتم الآن بوضع مناهج تعليمية تكون جامعة، وتفسيراً للحسنتين اللتين تمهدان الطريق نحو السعادة الشاملة.

ومما يؤسف له أن طلاب العلم في هذه المدارس والجامعات الجامعة بين الحسنتين رغم تكاثرهم وتزايد عدد القاصدين لها إنما يفقدون روح الموضوعية ويعيشون لمجرد الانتفاع بالتسهيلات المعيشية التي توفرها لهم المدارس، وذلك بالرغم من التركيز على مناهج التعليم والتربية والاستغناء عن حطام الدنيا الخسيس، كما كان دأب السلف الصالح من طلبة العلم والدين، ولكنهم يقتلون أوقاتهم الغالية في شؤون مزرية تنخرهم من روح العلم والأخلاق وترميهم كأمتعة رخيصة في المزابل، أليس ما نراه اليوم من وضع طلابنا الكرام كوضع أولئك الذين نسوا الله فأنسانهم أنفسهم، فما أحوجنا إلى الابتهال أمام ربنا أن يغير هذا الواقع المؤلم ويعيد شبابنا الأعزاء إلى التعرف بمكانتهم المتميزة ودورهم المترقب في العالم الحديث.

من سعادتنا بالمناسبة أن نتأمل في واقع التعليم الرباني لأول نبي وهو آدم أرسله الله تعالى إلى العالم مزدانا بالعلم الذي علمه، فقال “وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” [البقرة:31] ولخاتم النبيين والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أول وحي أوحى به الله وطلب منه القراءة ثم قال “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” [العلق:1-5] فخاطب أول الأنبياء آدم عليه السلام بصيغة “علم” مرة واحدة رغم أن خطابه لخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم كان بهذه الصيغة نفسها “علّم” مرتين، فجعل التعليم الرباني هو الأصل لجميع أتباع خير البشر وأعضاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وبغير هذه الجوهرة التعليمية تكون حياتنا ناقصة لا نكاد نؤدي الحقوق، حق العباد وحق المعبود في أي حال، وتلك خسارة لا تساويها خسارة، ولكن الله تعالى يمن على من يشاء بالعلم والقراءة في وقت واحد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

(سعيد الأعظمي الندوي)

×