سلامة الصدر من الأحقاد

سلامة الصدر من الأحقاد
26 ديسمبر, 2022
الإسلام دين السلام الاجتماعي
12 يناير, 2023

سلامة الصدر من الأحقاد

الشيخ محمد الغزالي

سلامة الصدر فضيلة تجعل المسلم لا يربط بين حظه من الحياة ومشاعره مع الناس، ذلك أنه ربما فشل حيث نجح غيره، وربما تخلف حيث سبق آخرون.

فمن الغباء أو من الوضاعة أن تلتوي الأثرة بالمرء فتجعله يتمنى الخسارة لكل إنسان، لا لشيء، إلا لأنه هو لم يربح.

ثم إن المسلم يجب أن يكون أوسع فكرة، وأكرم عاطفة، فينظر إلى الأمور من خلال الصالح العام، لا من خلال شهواته الخاصة.

وجمهور الحاقدين، تغلي مراجل الحقد في أنفسهم، لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد فاتهم، وامتلأت به أكف أخرى.

وهذه هي الطامة التي لا تدع لهم قراراً.

وقديماً رأى إبليس أن الحظوة التي يتشهاها قد ذهبت إلى آدم، فآلى ألا يترك أحداً، يستمتع بها بعد ما حُرِمها.

“قال فبمَا أغويتني لأقعدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيمَ ثم لآتينهمْ من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا نجد أكثرهم شاكرين” [الأعراف:16-17].

هذا الغليان الشيطاني هو الذي يضطرم في نفوس الحاقدين ويفسد قلوبهم. وقد أهاب الإسلام بالناس أن يبتعدوا عن هذا المنكر، وأن يسلكوا في الحياة نهجاً أرقى وأهدأ.

عن أنس بن مالك قال: ” كنا جلوساً عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال. فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم، مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى. فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو ـ تبع الرجل ـ فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً. فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال: نعم.

قال أنس: وكان عبد الله يحدث أن بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار ـ تقلب في فراشه ـ ذكر الله عز وجل حتى ينهض لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً.

فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله: قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة. ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ـ ثلاث مرات ـ: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرات فأردت أن آوي إليك، فأنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت.

قال عبد الله: فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك.(1).

وفي رواية: ما هو إلا ما رأيت يا ابن أخي، إلا أني لم أبت ضاغناً على مسلم(2).

وقد حرم الإسلام الحسد، وأمر الله رسوله أن يستعيذ من شرور الحاسدين لأن الحسد جمرة تتقد في الصدر فتؤذي صاحبها وتؤذي الناس به.

والشخص الذي يتمنى زوال النعم آفة تحذر غوائلها على المجتمع، ولا يُطمأن إلى ضميره في عمل.

وقد قال رسول الله صلى الله علهي وسلم:”لا يجتمع في جوف عبد غبار في سبيل الله وفيح جهنم. ولا يجتمع في جوف عبد، الإيمان والحسد”(3).

وقال: “إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”(4).

والرجل الذي يكره المنعم عليهم، ويود لو يمسون محرومين ويصبحون ضائعين، رجل ضللته عن حقيقة الحياة ظلمات شتى.

إنه أولاً محصور بالدنيا ومتاعها، يقاتل عليه ويبكي وراءه، ويتبع بالغيظ من نالوا نصيباً ضخماً منه. وهذا خطأ في تقدير الحياتين، بل لعله جهل أو ذهول عن الحياة الأخرى وما ينبغي لها من استعداد، يجب أن يتأهب المرء له، ويأسى لفواته.

قال الله تعالى: “يا أيُّهَا النَّاسُ قد جاءتكمْ موعظةٌ من ربّكم وشفاءٌ لما في الصدور، وهدىً ورَحمةٌ للمؤْمنينَ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هُوَ خيرٌ مِمَّا يَجْمَعُوْنَ” [يونس:57-58].

ثم إن الحاسد بعد ذلك، شخص واهن العزم، كليل اليد، جاهل بربه وبسنته في كونه.

ذلك أنه لما فاته الخير لأمر ما تحول يكيد للناجحين!

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

وكان أجدى عليه أن يتحول إلى ربه، يسأله من فضله. فإن خزائنه ليست حكراً على واحد بعينه، ثم يستأنف السعي في الحياة بعدئذ.

فلعل ما عجز عنه في البداية يدركه ثانية. إن هذا لا ريب أشرف من الضغينة على الآخرين.

والبون بعيد بين الحسد والطموح، وبين الحسد والغبطة، وبين الحسد واستنكار العوج في الأوضاع والخلط في المنع والعطاء.

فالطموح رغبة في الرفعة وسعي إليها. وذلك شأن الصالحين من عباد الله.

قال سليمان: “ربَّ اغفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا ينبغِي لأحدٍ من بعدي، إنَّكَ أنتَ الوهَّابُ” [ص:35].

والتطلع إلى فضل الله مع الأخذ في أسباب اكتسابه شيء غير كراهية فضل الله عندما ينزل بإنسان معين.

والغبطة رغبة المرء في الحصول على نعمة مماثلة لما أكرم الله به الآخرين.

ولما كان تطلع الإنسان إلى غيره، قد يكون فتحاً لأبواب الفتنة، وتعلقاً بالمنى الباطلة، واشتهاء لما يحسبه الشخص نافعاًله، وهو في الحقيقة ضار به، أرشد الإسلام إلى ما ينبغي طلبه، والتنافس فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها”(5).

والحسد في الحديث تمني مثيل النعمة، لا تمني زوالها.

والمقصود أن يكون المثل الأعلى الذي يستهدفه الإنسان جليلاً رائعاً، فإن من سقوط الهمة أن ترتبط الآمال بالتافه من الأحوال.. وهناك شؤون يعتبر التشبث بطلبها عبثاً لا يورث إلا الحسرة. وقد ينتهي بالحقد على الناس، لا لشيء إلا أن الله خصهم بمواهب فطرية، أو بمنافع تقوم على هذه المواهب.

وفي هذه الشؤون وأمثالها يقول الله تعالى:

“ولا تَتَمنَّوا ما فضَّلَ اللهُ به بعضكُمْ على بعضٍ، للرِّجالِ نصيبٌ ممَّا اكتسبوا وللنساءِ نصيبٌ ممَّا اكتسبنَ، واسألوا الله من فضله إنَّ اللهَ كانَ بكلِّ شيءٍ عليماً” [النساء:32].

وأما استنكار العوج في الأوضاع، فهو إقرار العدالة الواجبة، وليس من قبيل الحسد المذموم.

فإذا غضبنا لأن هذا أخذ الكثير على جهد قليل، أو رفع إلى درجة لا ترشحه لها كفايته، فهذا الغضب مفهوم ومحمود، وهو ضرب من رعاية المصالح العامة، لا صلة للحقد الشخصي به.

إن الإسلام يتحسس النفوس بين الحين والحين، ليغسلها من أدران الحقد الرخيص، وليجعلها حافلةً بمشاعر أزكى وأنقى نحو الناس ونحو الحياة.

في كل يوم، وفي كل أسبوع، وفي كل عام تمر النفوس من آداب الإسلام في مصفاة تحجز الأكدار، وتنقي العيوب، ولا تبقي في الأفئدة المؤمنة أثارة من ضغينة.

أما في كل يوم: فقد أوضح الإسلام أن الصلوات المكتوبة لا يحظى المسلم بثوابها إلا إذا اقترنت بصفاء القلب للناس، وفراغه من الغش والخصومات.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان”(6).

وأما في كل أسبوع: فإن هناك إحصاء لما يعمله المسلم، ينظر الله فيه ليحاكم المرء إلى ما قدمت يداه، وأسرّه ضميره، فإن كان سليم الصدر نجا من العثار، وإن كان ملوثاً بمآثم الغضب والحسد والسخط، تأخر في المضمار.

قال رسول الله: “تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً، إلا امرأً كانت بينه وبين أخيه شحناء. فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا”(7).

وأما في كل عام: فبعد تراخي الليالي وامتداد الأيام، لا ينبغي أن يبقى المسلم حبيساً في سجن العداوة، مغلولاً في قيود البغضاء.

فإن لله في دنيا الناس نفحات لا يظفر بخيرها إلا الأصفياء السمحاء.

ففي الحديث: “إن الله عز وجل يطلع على عباده، ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد كما هم”(8).

فمن مات بعد هذه المصافي المتتابعة، والبغضاء لاصقة بقلبه لا تنفك عنه، فهو جدير بأن يصلى حر النار. فإن ما عجزت الشرائع عن تطهيره، لا تعجز النار عن الوصول إلى قراره، وكي أضغانه وأوزاره.

الهوامش:

  1. مسند أحمد، رقم: 12697
  2. مسند البزار، رقم: 6038
  3. رواه البيهقي في شعب الإيمان، رقم: 6185
  4. أخرجه أبو داؤد، رقم: 4903
  5. صحيح البخاري، رقم: 1409، ومسلم، رقم: 816
  6. رواه ابن ماجه، رقم: 971، ومتصارمان: متقاطعان
  7. أخرجه مسلم، رقم: 2565
  8. رواه البيهقي في شعب الإيمان، رقم: 3554
×