قبل أن يفوت الزمام

نقاط مهمة ولكن مهجورة!
7 سبتمبر, 2022
إذا صلحا صلح الناس …
27 أكتوبر, 2022

قبل أن يفوت الزمام

محمد وثيق الندوي (مدير التحرير)

“إن الفراغ الذي حدث في قيادة الإنسانية اليوم فراغ رهيب، ولكنه فراغ لا يستطيع أن يملأه أحد إلا العالم الإسلامي، لأن العالم الإسلامي هو وحده مصباح الهداية والإرشاد في بحر الظلمات، إنه يحفظ في وعائه إيمانًا أفلس فيه الشرق والغرب، ودستورًا لا يقبل النسخ والنقد، وتاريخًا ناصعًا لا تضارعه فيه أمة، وحكمة ربانية،هي مفتاح كل قفل، وحلُّ كل مشكلة “تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” [فصلت:42] وذلك في حين فرغت فيه يدُ الإنسانية من كل مثل عال، وتعليم خلقيّ، فلا ترى في وعائها إلا قطعة من الحجر،أو شذرة من الذهب”.(محمد الحسني رحمه الله)

فعلى العالم الإسلامي أن يؤدي مسئوليته نحو الحياة والإنسان والكون،ويلعب دوره القيادي في السياسة العالمية،ويغيِّر مجرى التاريخ،ويحوِّل القيادة من القوى المستبدّة إلى القيادة الإسلامية العادلة الراشدة،ويؤدي وظيفته التي نيطت به،وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور،ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها،وإن الوضع الراهن يقتضي سرعة؛ لكن بحيطة وحذر،ويطلب شهامة واقتحامًا؛ ولكن بعد فكر وتدبُّر، وتريُّث وتبصُّر،وتخطيط وتنظيم.

ولكن كيف؟!. ويجتاز العالم الإسلامي اليوم مرحلة خطيرة من مراحل تاريخه، وقد حدث في صفوفه التفرُّق والتمزُّق والتشتُّت والتحارُب، وانحرف عن الهدف الأسمى الذي بُعثت له الأمة الإسلامية،وفقد رصيده الإيماني والروحي،وقوته وتنظيمه العلمي الجديد،ولذلك سقط سريعًا أمام الاختراعات والاكتشافات العلمية الجديدة، والنظريات الحديثة،وبريق الحضارة المعاصرة، وقوة الحديد والنار، مع أنه يملك مكانة استراتيجية ذات أهمية كبيرة في خريطة العالم لا تملكها الدول الأخرى، ويملك من المنابع والثروات الطبيعية والمعادن والذخائر الأرضية ما لا يُوجد في غيره، وفيه القوة الهائلة؛ قوة الشباب التي تجعله في كفاية وغناء عن الخضوع والاستسلام أمام الآخرين.

توجد في العالم مخططات ومؤامرات لتطويق العمل الإسلامي ومعاقله بطرق مختلفة، منها إنشاءُ انهزامية نفسية وعقلية وفكرية في الجيل المسلم المعاصر أمام الاتجاهات المتطرفة الغازية من العلمانية واللادينية،والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية الجديدة الجارفة عن طريق مناهج التعليم والتربية،ومنها توجيهُ هجمات إلحادية عنيفة عن طريق وسائل الإعلام والصحافة، ومنها تقليدُ الغرب في غير ذكاء، ومحاكاته في غباء، والاكتفاء بالجوانب التي تجلب المتعة واللذة إعراضًا عن الجوانب التي تتصل بتنظيم الحياة وتصميمها، والرغبة في الارتجالية والتهور، بدلاً من الروية والتفكير والصبر،والجري وراء المتعة الرخيصة واللذة المكشوفة كالكلاب اللاهثة، والفرار عن الجد والاجتهاد كما يفعله الغربي، ثم يرفه عن نفسه متحررًا عن جميع الحدود والقيود في ساعات فراغه، فأخذنا من الغرب عاهاته وآفاته،وتركنا خيراته وحسناته،وذلك جزاء كل من يتنكر للدين الإلهي،وتتشعب به المسالك عن الصراط المستقيم، فيتخبط من غير هدى، ويتسكع في ضلال وعمى.

وإن ما نراه اليوم في المجتمع الإسلامي من إقبال على الهزل، وإعراض عن الجد، وفرار عن تبعات الكرامة وضريبتها،سببُه فقدان الشخصية الإسلامية الممتازة والشارة الإسلامية المميزة، وضعف العقيدة النقية الصافية بين بهرجة الأيديولوجيات الجديدة اللادينية، وغياب الحقيقة بين النعرات والهتافات العلمانية الجذابة، وغلبة الصور والأوهام، وضياع المبادئ والقيم والمثل الخلقية الإسلامية بين الشعارات الحضارية الخادعة والرؤى التنموية البراقة، وبين وسائل الإعلام المدمرة الماجنة،والموضات الجارفة للحشمة والحياء.

إن هذا الوضع وضع لا تنفع معه رشاقةُ كُتَّاب، وبراعةُ خطباء، وبحوثُ علماء، ودراساتُ محققين، ولا تغريداتُ مغرِّدين، وتدويناتُ مدوِّنين، ولا تنفع معه ندوات ومؤتمرات وجلسات، ولا قرارات وتوصيات، ولا محاضرات دينية، وأحاديث تربوية، ولا ننكر أهميتها وضرورتها وفائدتها وإخلاص القائمين عليها؛ لكنها قطرات صغيرة إلى جانب العباب الزاخر والسيل الدافق من الحياة اللاهية الفارغة.

وإصلاح هذا الوضع ليس عمل شهر أو شهرين، سنة أو سنتين؛ بل إنه في حاجة -بجنب مشاريع اقتصادية ذات سنوات، تعلن عنها الحكومات في الدول الإسلامية والعربية- إلى مشاريع إيمانية ذات سنوات، تربي الجيل الجديد على الإيمان الصحيح الراسخ، والعقيدة الصافية النيرة،والمبدأ الإيماني والمنهج الإسلامي السليم، وتُركَّز العناية على هذا الجانب المهم، لا على بناء المباني الفخمة، والعمارات الناطحة للسماء،والأسواق الضخمة، ومراكز الترفيه والتسلية.

وعلينا أن نخرج من حياة التبعية والخنوع والاستسلام إلى حياة الوصاية على العالم،وهداية الشعوب والأمم،ونخرج من الأوضاع المزرية المخجلة التي تسود المجتمع الإسلامي بجراء تجرُّده عن خصائصه وشخصيته،وانجرافه مع العناصر اللادينية.

فمن هنا يتحتم علينا أن نقوم بتغييرات جذرية إيجابية شاملة، تغيير في المواقف،تغيير في السلوك، تغيير في الإعلام، تغيير في السياسة، تغيير في المناهج التعليمية والتربويّة، ونقاوم الإعلام المهاجم والمضلل بأنواعه المختلفة وألوانه الجديدة،ونصحح الاتجاه والمسيرة،ونحدد الهدف بدقة ووضوح وإيمان، ونتخذ الطريق إليه بروية وتعقل، ونتقدم في هذا الطريق بخطي ثابتة واثقة لا تتزعزع، وهمة عالية لا تلين، وعاطفة إيمانية لا تخمد.

 أمّا مناهج التعليم والتربية فإنها في أمس حاجة إلى استقلال النظام التعليمي، وإجراء تغيير في وسائل التعليم والتربية ونظمها لأنها نقطة البداية في انقلابات فكرية وإحداث ثورة، كما استغلها “دوغلاس دنلوب” في عهد المندوب البريطاني اللورد كرومر للتغريب وإقصاء الإسلام من الحياة، وإعداد جيل متحرر من كل قيد في مصر، لأن نظام التعليم والتربية له أثر كبير في تحقيق هذا الهدف،فلابد أن يكون نظام التعليم والتربية متسمًا بالأصالة والعمق والشمول.

نجعل نظام التعليم والتربية صالحًا للأمة المسلمة التي أصبحت اليوم معجبة بكل وافد ووارد،صالحًا لتغيير اتجاه الجيل المعاصر وتنشئته من أول يوم على الاعتزاز برسالة الإسلام الخالدة المنقذة، ومقت الجاهلية والاشمئزاز منها، وتزويده بأقوى الزاد الإيماني والحصانة الروحية حتى يقدر على مواجهة التحدي بالتحدي، والهجوم بالهجوم، والسيل بالسيل، بل مواجهة الشرارة بالنار، والعاصفة بالإعصار،فإن الشباب يحتاج إلى قيادة قوية متكاملة،والقيادة تحتاج إلى شحن جديد ومستمر،واتصال دائم بمنبع الحرارة والنور وهو التمسك بالكتاب والسنة. 

وأما وسائل الإعلام فإنها أصبحت اليوم مدرسة الجيب، وحانة البيت، فهي تربي الطفل الصغير والشيخ الكبير في وقت واحد، فتصل إلى ما لا يصل إليه المعلمون، وتفعل ما لا يفعله الوُعَّاظ والخطباء، وتصنع ما لا يصنعه الكتّاب والأدباء، فلابد من توجيه وسائل الإعلام بجميع أنواعها وألوانها توجيهًا إسلاميًا رشيدًا،فالإعلام المقلّد أوالإعلام الناقص أوالإعلام الغير الهادف لا يستطيع أن يحافظ على نفسه وكيانه فضلاً أن يملي كلمته ويؤثر على غيره، ويحافظ على شخصيته.

وكذلك وضع الاقتصاد فإنه بحاجة إلى الاكتفاء الذاتي لبناء عالم أفضل مستقل لا يدور في فلك الآخرين ولا يعيش عالة على البلدان القوية العالمية.

وكذلك الأوضاع السياسية والاجتماعية التي نعيشها،وتنذر بالأخطار، لا تقتضي التأخير، ولا تحتمل الترقب والانتظار؛ بل يتطلب الإقدام والمسارعة بحيطة وحذر،وبحنكة وحكمة،والقدس السليبة وفلسطين الجريحة وكرامة المسلمين الضائعة لا تُرَدُّ بالمؤتمرات والقرارات وإصدار التصريحات،ولا بالمعاهدات والوعود كما يدل عليه التاريخ المعاصر، وكذلك نحتاج إلى إقصاء الخبراء الأجانب والمستشارين الأجانب؛ لأنهم لا يستطيعون أي مساعدة في البحث عن شخصيتنا المفقودة لأن ما فقدناه لا يعرفه هولاء الأجانب وهو المبدأ والعقيدة والمنهج الإسلامي، وما يعرفه هولاء لم نفقده، فلا ننجح ما دمنا بعيدين عن شخصيتنا الإسلامية الممتازة التي كان يخاف منها الأعداء في الماضي.

إنّ هذه الخطوات ليست سهلة هينة ولا تقبلها الطبائع والنفوس التي ألفت الأوضاع الراهنة، فإن استدراك ما فات منذ زمن طويل ليس بالأمر الهين، بل إنه يحتاج إلى تضحية في النفس والمال والمتاع والعادة والتقليد.

×