إلى أين يتجه البلد الحرام؟!!

اليوم العالمي لحقوق الإنسان
23 ديسمبر, 2021
الدعوة الإسلامية فريضة وضرورة
21 فبراير, 2022

إلى أين يتجه البلد الحرام؟!!

محمد وثيق الندوي

(مدير تحرير صحيفة الرائد، ندوة العلماء بلكناؤ، الهند)

إن مركز البلد الحرام في العالم الإسلامي، بمثابة القلب في الجسم الإنساني، الذي إذا عاش وقوي، وأدَّى وظيفته في الجهاز الجسمي والنظام الحيوي الصحي، عاش الجسم وقوي، كما كتب الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، وإذا دبّ الوهن إلى هذا القلب أو اعتلّ، وتخلى عن وظيفته ودوره، استولت عليه الأمراض والعلل، وأسرع إليه الموت، وعجز الأطباء الحاذقون عن إعادة الحياة إليه بالطرق الصناعية، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: ” ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”. (متفق عليه).

وقد كتب الإمام السرهندي رحمه الله في رسالة له:”إن السلطان في الدنيا كالقلب في البدن، فإذا صلح القلب صلح الجسد، وإذا فسد القلب فسد الجسد، وإن صلاح السلطان صلاحُ الدنيا، وفساد السلطان فسادُ الدنيا”. (رجال الفكر والدعوة في الإسلام،3/291)

فإن البلد الحرام الذي فيه الحرمان الشريفان، مهبط الوحي، ومبعث الإسلام، ومصدر الدعوة الإسلامية، ومركز الإسلام الدائم، والمقياس الصحيح للنظام الإسلامي الشامل للحياة، وصلاحيته للبقاء والتطبيق، وبروز المجتمع الإسلامي المثالي الفاضل، فالنظام الإسلامي مهما كان عالميًا لابُدَّ له من مركز يعتبر مقياساً وميزاناً لعمليته وواقعيته، وأسوة وقدوة لجميع المدن والقرى والمجتمعات التي تؤمن بالنظام الإسلامي وتحتضن العقيدة الإسلامية.

ولكل دين مركز يحتج بعمله وأعرافه، ولكل حضارة بلد مثالي أو عاصمة أو قاعدة يستدل بأساليب الحياة فيها والأنماط المدنية والمثل الاجتماعية في نواحيها، فمركز الدين الإسلامي هي الأرض المقدسة التي يقع فيها الحرمان الشريفان، فهي مركز نموذجي للحياة الإسلامية والنظام الإسلامي.

وقد عقد الله بين العرب والإسلام، ثم بين الحجاز والأمة الإسلامية، ثم بين الحرمين الشريفين وقلوب المسلمين للأبد، وربط مصير أحدهما بالآخر كما كتب الشيخ الندوي، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على بقاء هذا الرباط الوثيق المقدس بين جزيرة العرب والإسلام، فضلاً عن الحجاز والحرمين الشريفين، وحرص على سلامة هذا المركز وهدوئه وشدة تمسُّكه بهذا الدين، لأن العاصمة يجب أن تكون بعيدة عن كل تشوش، وعن كل فوضى، وعن كل صراع عقائدي أو مبدئي، فشرع لذلك أحكاماً بعيدة النتائج، واسعة المدى، وأوصى لذلك وصايا دقيقة حكيمة، وأخذ لذلك من أصحابه وأمته عهوداً ومواثيق، وقد ذكرت عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – فقالت: “كان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: “لا يترك بجزيرة العرب دينان” وعن رافع ـ رضي الله عنه ـ ” أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا ندع في المدينة ديناً غير الإسلام إلا أخرج”، وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ يقول: “أخبرني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيهم إلا مسلماً”.

وجاء في حديث صحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” المدينة حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثَوْرٍ، فمن أحدث فيها حَدَثًا، أو آوى مُحْدِثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفًا ولا عَدْلًا”.

وأخذ بذلك الخلفاء الراشدون المهديون، فكانوا ينظرون دائماً إلى الأرض المقدسة كمعقل للإسلام ورأس مال الدعوة الإسلامية، وقد جاء في وصية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لخليفته “أوصيه بالأعراب خيراً فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام”.

فإن البلد الحرام معقل الإسلام، ومبدأه ومنتهاه، والمؤئل الذي يأوي إليه الإسلام والمسلمون في ساعات عصيبة وأزمات مختلفة وفي آخر الزمان،كما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة.

نظرًا إلى عظمة البلد الحرام وقداسته، وكونه مصدر الإشعاع العالمي الإسلامي، ومقياس قوة الإٍسلام وغلبته،حمل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ويحملون حساسية زائدة لما يقع فيه من حوادث، ولما يجري فيه من تيارات واتجاهات وخطوات، ويراقبون مدى تمسكُّه بتعاليم الإسلام، ومحافظته على الروح الدينية والعاطفة الإسلامية، وحينما يرون تعارض القول والفعل والعقيدة والحياة في مركز الإسلام يصابون بالقلق والتوجع، وتثور مشاعرهم المرهفة، وتنفعل قلوبهم الحساسة، ويتجلى ذلك كله في كتابات علماء الإسلام في عصور مختلفة،وفي مقدمتهم في العهد الأخير الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي كما تدل على ذلك رسائله وكتاباته،وأخيرًا أبدى خليفته الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الرئيس العام لندوة العلماء قلقه وتوجُّعه على ما وقع أخيرًا في البلد الحرام في رسالة له وجهها إلى ولي عهد المملكة العربية السعودية بواسطة السفير السعودي بدلهي عاصمة الهند.

وقد اعتبر المسلمون في كل زمان ومكان في العالم، صيانةَ الأرض المقدسة عن نفوذ أعداء الإٍسلام والقوى المعادية، أقدس واجباتهم وأعظم مسئولياتهم،وقد قال شاعر الإسلام محمد إقبال ما معناه: “”يجب أن يكون المسلمون صفًا واحدًا لحراسة الحرم من شاطئ النيل إلى أرض كاشغر”.

وتخوَّف الغرب من هذه الصلة الوثيقة القوية بالأرض المقدسة، والتفاف المسلمين حولها واهتمامهم بقضاياها وشئونها فحذَّر المستشرقون والمبشرون الحكومات الغربية من ارتباط قلوب المسلمين بالأرض المقدسة كما جاء في تقرير مؤتمر مبشري البلاد الإسلامية الذي عقد في لكناؤ عام 1911م:” يجب علينا أن لا ننسى ارتباط الإسلام في الهند بمكة، وهذا الارتباط يدعو سكان جزائر ماليزيا إلى الاعتقاد بأنهم جزء من مجموع كبير” وجاء في التقرير نفسه: ” إن مدينة مكة والطرق الصوفية هما من أكبر العوامل على بثّ شعور الوحدة بين المسلمين والنفرة من كل شيء غير إسلامي”.

وجاء في تقرير المؤتمر الذي عقد في القاهرة عام 1906م: “متى توارى القرآن والمدينة ومكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه”.(الغارة على العالم الإسلامي/ا.ل.شاتيلة، ترجمة مساعد اليافي ومحب الدين الخطيب)

وقال اللورد كرومر: ” جئت إلى مصر لأمحو ثلاث القرآن والكعبة والأزهر” (المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام / علي بن نايف الشحود)

فخطط الغرب للقضاء على هذا الارتباط الوثيق بالأرض المقدسة، وغيَّر سياسته من الحرب إلى الغزو الفكري والثقافي، وتحوَّل عن فكرة الحكم المباشر والتدخل المباشر في الأرض المقدسة، إلى النفوذ الفكري والثقافي والأدبي والعلمي والحضاري في الأرض المقدسة،وذلك عن طريق منظمات دولية، ومتخصصين في العلوم والآداب والفسفة والاجتماع، والأساتذة والمعلمين والخبراء الفنيين الذين تربوا في أحضان الغرب،وعن طريق المؤتمرات الثقافية والندوات العلمية، وعن طريق البعثات التعليمية التي ذهبت إلى الغرب وتلمذت على أساتذة الجامعات الأوربية والأمريكية، ونهلت من مناهل الثقافة الغربية الملحدة، ثم عادت فتمكنت من الاستيلاء على مواقع النفوذ والتأثير في البلد، وعن طريق التخطيط المدني والتعليمي يبد الأجانب الحاقدين.

فنتيجة للتخطيط التعليمي الغربي والغزو الفكري والثقافي خضعت البلاد المقدسة للنفوذ الأجنبي البريطاني ثم الأمريكي، وضعفت الصلة بتعاليم الإسلام، وشاعت كثير من العادات والتقاليد الجاهلية والأمور المتعارضة مع الشريعة الإسلامية، حتى بدأ يقع أخيرًا في البلد الحرام من خطوات وإجراءات مغايرة للشريعة الإسلامية،من السماح بإقامة حفلات وبرامج فنية من الرقص والغناء والطرب، وتوفير وسائل الخلاعة والاستهتار والمجون، ومن إنشاء المعابد لغير المسلمين بتشجيع من الحكام المعاصرين الذين أدى أسلافُهم أدوارًا رائدة وخدمات جليلة في مجال الدعوة إلى التوحيد، ومحاربة الشرك والبدع،والإصلاح الديني، وتطهير الدين مما التصق به من الجهل والخرافة والعادات الجاهلية، وتمثيل الحياة الإسلامية تمثيلاً رائعًا في مركز الإسلام ومنبعه، وحل القضايا الإسلامية، ونشر الوعي الإسلامي والتعليم الديني في مختلف أنحاء العالم.

ولو سار مركز الإسلام في الاتجاه المعاكس الذي يدعو إليه أصحاب الفكر الحر والمتجددون والمتغربون، الاتجاه الذي سارت فيه بعض الدول العربية الإسلامية، من الحرية المطلقة، والترفيه غير المحدد، وغير المقيد بالشرع والأخلاق، وسار في محاكاة الغرب في سائر مجالات الحياة كما تحدث اليوم من أمور وأعمال غير إسلامية، فإنه سيفقده شخصيته الإسلامية وشارته الممتازة، ويبعده من أصالته، ويوقعه فيما ينافي عقيدته ومبادئه، ويرزؤه في شخصيته ومعنوياته، الأمر الذي أثار الغيرة الإيمانية في نفوس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لأن ما يقع أو يتخذ في الأرض المقدسة من خطوات أو إجراءات منافية لتعاليم الدين، تستغلها العناصر المغرضة والمعادية في البلدان غير العربية وخاصة في البلدان التي يعيش فيها المسلمون في أقلية، لفرض الحظر على النشاطات الإسلامية والدعوية والتعليم الديني كما تطالب بعض المنظمات الهندوسية في الهند بفرض الحظر على النشاطات الإسلامية والتعليم الديني مستدلة بما يقع في الدول العربية والإسلامية.

فمما يقتضيه الدين والشعور بالأمانة والمرؤة والشرف والاعتراف بالواقع التاريخي ومراعاة مشاعر المسلمين في كل مكان في العالم، ومما تقتضيه السياسة الحكيمة أن يكون كل ما يقرر ويسن ويشرع، ويدعى إليه ويسمح به في كل مجال من مجالات الحياة في مملكة البلد الحرام وهو مركز الإسلام وموئل الإنسانية ومعقلها ومثابة للناس وسلام، تابعًا لتعاليم الإسلام،وخاضعًا لشخصية الأرض المقدسة ورسالتها ومركزها في العالم، والمبدأ الذي قامت عليه في الماضي وعرفت به في الحاضر وهو التمسك بالشريعة الإسلامية بمعنى الكلمة، وصبغ الحياة بالصبغة الإسلامية الخالصة.

وأما ما يعتقده بعض الناس من أن التوسُّع والانطلاق في مواد التسلية والترفيه، والسير وراء الغرب، في مناهج التعليم والتربية والسياسة، وتطبيق مظاهر الحياة الغربية المادية، مما لا يقدم ولا يؤخر في نهضة البلاد وتحقيق رؤية 2030م، ترفيهًا للشعب وتحقيقًا لمطالبه، وعلاجًا للتذمُّر والبطالة، وتقدُّمًا للبلاد فإنه ليس بصحيح، بل هو خطأ واضح، لأن محاكاة الغرب والانجراف مع التيارات والاتجاهات الإلحادية خطر على البلاد، وخطر على المملكة، وهو ينشر التفسخ الخلقي والميوعة، ويضعف الشخصية الإسلامية، ثم هذا الاتجاه يفقد الأرض المقدسة حرمتها وقداستها وشخصيتها، ويقطع صلتها عن الماضي،ويحول بين نصر الله ورحمته التي لا انتصار ولا عزّ ولا كرامة ولاسلامة بغيرها، فإن القوى المعادية قوية ماكرة لا تحترز من شيء في سبيل تحقيق أغراضها الاستعمارية وعزائمها التوسعية.

وقد بلغت غربة الإسلام اليوم أن الأعداء يصفون الإسلام وشعائره بصفات غير لائقة،ويعيبون المسلمين، ولا يستحيون من إظهار ما يعتقدونه علنًا، والمسلمون إزاءهم لا يقدرون على إظهار تعاليم دينهم، ويُعابون إذا عملوا بها ويُذَمُّون، بل يعيشون في المعتقلات والزنزانات،ولمثل هذا يذوب القلب من كمد،وينطبق على هذ الوضع ما قال شاعر:” ما بال الحور العين مصفرة الوجوه، شاحبة الألوان، والسعالى في الجمال والدلال، يا للحيرة القاتلة، ويا للعجب العجاب”. فيجب على الحكام المعاصرين أن يتجنبوا الانسياق والانجراف إلى الغرب الحاقد، وأن يكونوا قادة مخلصين متدينين مستقيمين، ويصونوا البلد الحرام من المخطط الإسرائلي التخريبي، ويفسحوا المجال أمام الدعاة المخلصين والعاملين في مجال خدمة الدعوة الإسلامية والوطن طوعيًّا، ويمتنعوا عما يجرّ الخيبة والمهانة،فلا تطلبوا العزة عند الأعداء الحاقدين، وإنما العزة بيد الله: “قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (آل عمران:26) “وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ” (البقرة/12:) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “كنتم أقل الناس فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله”.

×