عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (5)

إسرائيل والعالم العربي: ثمانية حروب وأربعة اتفاقات
22 أكتوبر, 2020
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
12 نوفمبر, 2020

عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (5)

محاربة قادة هذه الثورة للإسلام، نتيجة حتمية لثقافتهم وتربيتهم:

أما تنكُّر هؤلاء القادة للإسلام، وقلبهم له ظهر المجن، وانتصابهم لإقصائه من الحياة والمجتمع، وتجريده من كل سلطة ونفوذ، فإن الإنسان مهما تأسف عليه ليس له أن يتعجب عليه، فإن هذا الاتجاه والعداء للإسلام نتيجة حتمية طبيعية للنظام التعليمي، الذي تربوا عليه، ورضوا بلبانه، والشجرة لا تلام على ثمرتها الطبيعية، ولا يستغرب منها، إنهم كما تعلمون من تاريخ حياتهم نشأوا في أحضان الأساتذة الغربيين والعلماء المستشرقين، وتخرجوا في الكليات والجامعات الغربية، المدنية والعسكرية، وما كان على شاكلتها من المعاهد والمراكز التعليمية في الشرق، وقد كان المشرفون عليها والمعلمون فيها، جادين حريصين على صرف هؤلاء الشباب، الذين ينتمون إلى بيوتات كريمة، وبعضهم أبناء ملوك المسلمين، ورؤساء الحكومات، عن دينهم وعقيدتهم، وإفسادهم خلقياً وعملياً، وإنشائهم على تفسخ وعقيدتهم، واستهتار، بطرق بارعة، وأساليب حكيمة، وقد كان ذلك في بعض الأحيان يتوجيه من الحكومات الغربية، وإيعاز منها، لبسط نفوذها على هذه البلاد، وتأمين مصالحها فيها، وقد أساغوا وهضموا الأفكار والنظريات التي لقنها، أساتذتهم ومربوهم الغربيون، فأصبحت عندهم كالمسلمات والبديهيات، والمقررات العلمية، التي لا تقبل الجدل والنقاش.

ومن هذه النظريات أن الإسلام قوة قد استهلكت ونفدت، وفقدت كل صلاحية للبقاء فضلاً عن القيادة، وإنها كبندقية قد أطلقت رصاصتها الأخيرة، وأصبحت فارغة لا شحنة فيها، وإذا كان لابد منه، ولا حيلة للتخلص منه، فإنه قضية شخصية، هي بين العبد وربه لا يسمح له بالتدخل في صياغة الحياة، وتشكيل المجتمع، وكذلك المساواة بين الرجل والمرأة مساواة كلية، والتمسك بالتشريع الإسلامي وبأحكام المواريث والأحوال الشخصية وإن كانت منصوصة في القرآن رمز للرجعية، إلى غير ذلك من النظريات والاقتناعات، التي أخذها هؤلاء القادة، إما مباشرة من أساتذتهم، وإما تقليداً وإعجاباً بعلمهم، فآمنوا بها إيمان أهل الدين المخلصين بالأصول الدينية، والنصوص القطعية.

وقد تغلغل تقديس الحضارة الغربية بقيمها ومفاهيمها، وتصوراتها ومظاهرها، التي لا تقدم ولا تؤخر في مضمار القوة والحياة الكريمة، في أحشائهم، وامتزج بلحومهم ودمائهم، حتى أصبح من المستحيل تجريدهم عنه، وآمنوا بأن هذه الحضارة الغربية والفلسفة المادية، قد بلغتا القمة من العقل ورقي البشر، وحال تعصبهم لهذه الحضارة والفلسفة الغربية عن أن يطلعوا على مواضع الضعف والإخفاق فيها، كما اطلع عليه كثير من رجال الغرب.

وآمن بعضهم بالفلسفة الشيوعية، والمبادئ الاشتراكية إيماناً راسخاً تقليدياً، كإيمان الراسخين المتحمسين من المؤمنين بالأديان، لا يحتملون نقداً لها، ولا تمحيصاً، ولا يفكرون في إبداع أو ابتكار، أو تكييف لها لبلادهم، وإنما يقلدونها تقليداً أعمى، وكان شأنهم في قبول هذه الفلسفات كلها، وحبهم لها شأن بني إسرائيل الذين حكى الله تعالى عنهم في القرآن، فقال: “وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ” [البقرة:93] وبعضهم، أو أكثر ما مسير لا مخير، ومقود لا قائد، وآلات صماء في يد الموجهين في الخارج.

فلما سنحت لهؤلاء القادة فرصة لتنفيذ هذه المبادئ والعمل بها، انتهزوا هذه الفرصة، وهنالك عرف مدى رسوخهم في قبول هذه النظريات، وفلق أهل الغيرة من المسلمين، مع أنه كان ذلك هو المتوقع المفروض من هؤلاء القادة والزعماء، وكانت تبدر منهم بوادر تدل على ذلك، ولكنهم لم يكونوا يملكون من الأمر شيئاً، فلما وصلوا إلى مركز الحكم والقيادة لم يضيعوا فرصة لتطبيق نظرياتهم، ورأوا في ذلك ضماناً لبقائهم في الحكم، وتخلصاً من نفوذ “المتطرفين الرجعيين” الذين لا يزالون يشكلون الخطر الأكبر لقيادتهم ورئاستهم، وصاروا ينشئون الأجيال على هذا الدرب، حتى يصفو الجو، وترسخ قواعد حكمهم، ويزول كل خطر، وما دام هذا النظام يعمل ويشتغل، وهذه الشجرة تؤتي أكلها فلا تنتج منها إلا مثل هذه القيادات، ولا يولد إلا أمثال هؤلاء الزعماء، هذا هو منطق الأشياء وطبيعة الأمور.

لماذا تعرضت الأقطار العربية لهذه المحنة القاسية:

أما لماذا أصبحت هذه الأقطار العربية الإسلامية التي أشرنا إليها مسرحاً لهذه الثورة على الإسلام، ومركباً ذلولاً، لهؤلاء الزعماء والقادة المتنكرين للإسلام، المحاربين له بكل ما أوتوه من قوة وصلاحية، وحول وطول، وكانت فريسة سائغة سهلة لهذه المؤامرات والمخططات، فله عندي سببان، أحدهما داخلي، والثاني خارجي.

أما السبب الداخلي، فهو ما ذكرت في مفتتح الحديث: إن الله سبحانه وتعالى يعاقب على الكفران بالنعمة ما لا يعاقب على الكفر، وعلى الكنود ما لا يعاقب على الجحود، واستحضروا الآيات التي استشهدت بها، وقد أكرم الله هذه الشعوب والأقطار العربية باختيارها حاملة لرسالة الإسلام، واصطفاها لها، وأنزل كتابه في لغتها، وبعث رسوله، آخر الرسل، وأشرفهم فيها، ومنَّ عليها بذلك، فقال: “وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ” [الزخرف:44](1)، وكتب لها الإمامة والقيادة، للأمم التي تؤمن بهذا الدين، وتدخل في حظيرة الإسلام، وحبب لغتها وعلومها، وآدابها، وحضارتها وعاداتها إلى هذه الأمم، فقلدتها فيها، واقتبستها منها، وتفاخرت بالسبق فيها، والتمسك بها فانتشرت هذه اللغة في العالم في أقل مدة عرفها التاريخ للغة من اللغات، وأصبحت لغة الدين ولغة العلم، ولغة التأليف، والتعليم، والعبادة والسياسة، وأثارها كثير من أبناء العجم ونوابغهم وعباقرتهم، على لغتهم، وآدابهم، وحضارتها على حضارتهم، وكان ما كان مما تحدث عنه ا لتاريخ، وتغني به الشعراء والأدباء، ولا تزال آثاره باقية ماثلة للعيون مما لا يوجد له نظير في تاريخ أمة من الأمم، ولا في تاريخ دين من الأيان.

ولكن كثيراً من أبناء الأقطار العربية أنكروا أو تجاهلوا فضل الإسلام في نهضتهم، واستهانوا بقيمته، وتطلعوا واستشرفوا إلى القومية، والفلسفات الأجنبية، والمبادئ الدخيلة، كأنها نعمة من نعم الله، وكأنها أرقى مما أكرمهم الله به، وكان مثلهم كمثل طائفة من بني إسرائيل رافقت موسى، ومرت بعباد أصنام، فتحلبت أفواهها لهذا المنظر، وسال لعابها على هذه الوثنية ا لتي أنقذهم الله منها، فقالت: “يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ” [الأعراف:138] وقد قص الله هذه القصة في القرآن في أسلوب تمثلت فيه استهانة بني إسرائيل بنعمة التوحيد، وافتتانهم السريع بالوثنية، التي كان يجب أن تشمئز نفوسهم منها، وتتقززها، وظهر فيه استنكار نبي الله موسى، وحنقه الشديد في أروع شكل، فقال: “….وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ” [الأعراف:138-140].

وما كان مثلهم إلا كمثل ابن ملك نشأ في القصر، وشبل في نعمة أبيه، ثم عاف الأطعمة الملوكية، والسفرة السلطانية، ورغب في فتات المائدة، ومرذول الطعام، وأحب الجلوس مع الكناسين، فتوجه إليه النقد والملام، وأشير إليه بالبنان، وتقززه ندماء الملك وخاصته واتهموه بخفة العقل وفساد الذوق.

وهذا سر وقوع هذه الأقطار لقمة سائغة، وفريسة سهلة لهذه الاتجاهات الزائغة، والثورات على الدين، وموجات الردة العنيفة، والتحديات الصارخة للإسلام، ولا سبيل إلى التخلص منها إلا العودة إلى الدين، والاعتزاز به، والشكر على نعمة الله.

الهوامش:

(1) أي شرف لك ولقومك، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة والسدى وابن زيد، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه، (ابن كثير الجزء السادس ص: 778).

 

الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله

×