من الجزيرة العربية إلى العالم

الشيخ محمد ولي الرحماني في ذمة الله تعالى
21 أبريل, 2021
الصامدون في وجه الاستعمار (2)
27 مايو, 2021

من الجزيرة العربية إلى العالم

مساء الخير أيها العالم، لقد سمعت كلمتك الرقيقة التي تنم عن إخلاص وصدق وحب، وقد خاطبت يوم خاطبتني جزءاً منك وعضواً حياً من أعضائك يشعر بشعورك ويتألم بألمك ويشاركك في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء.

لقد ذكرتني بذكرك القيادة العالمية عهداً كلما تذكرته تحركت أحزاني وهاجت شجوني، لقد كنت كما تعرف جزيرة منعزلة عن العالم لا أسترعى نظراً ولا أشغل بالاً ولا ترفع برجالي رأساً ولا تعيرهم شيئاً من العناية، يقول رجالك المتمدنون إذا سئلوا عنهم: أعراب من جزيرة العرب رعاة إبل وسكان وبر وأصحاب فصاحة، لا يعرفون الحضارة والمدنية والعلوم، بينما بلغت المدنية أوجها في بلادك الرومية والفارسية، وبينما كنت تزخر بالبضائع والأبنية الشامخة والعلوم والحرف.

ولكن ـ من غير مؤاخذة ـ لقد انطفأت شعلة الحياة في جسمك وفقدت حرارتك الغريزية وقد ضاعت رسالة الأنبياء في ترف الأغنياء وبؤس الفقراء وجور الأمراء ومطالب الحياة وتكاليفها التي لم تترك فراغاً في القلب، وسعة في الوقت، وبقية في الصبر، حتى أصبحت لا يوجد في إقليم واسع منك من يفكر في الآخرة ويهتم بدينه وغاية حياته، وقلما يوجد في قطر من يعبد ربه.

وقد كنت في غير تواضع مصاباً بأدواء خلقية واجتماعية ودينية، وبما تزري بأدوائك وعيوبك الاجتماعية، ولكن كانت لا تزال في جمرة من الحياة، صبر على المكاره، وثبات على المبدأ واستماتة في سبيل العقيدة، واستهانة بالحياة والمادة، وبساطة المعيشة إلى غير ذلك مما يليق بأمة نيط بها جهاد طويل عريض.

نظر الله إليك وهو العليم الحليم الخبير، فرأى كل ما يرضى السياحين ويسر المتفرجين من زهو المدنية، ولا يرضى الذي خلق العالم لغاية، وخلق الخلق لعبادته، ونظر إلى أمم الأرض، فعمد إلى أحطها معيشة، وأخملها ذكراً، وأقواها على حمل الأمانة، فاختارها لرسالته، وابتعثها إلى هذا العالم المنهار.

أرسل إلى رسولاً ولدته أم القرى وعاش في أحضاني بين سمعي وبصري فإذا هو قرة عين الإنسانية وجمال الدنيا، وعلى جبل من جبالي في يوم لم أعرف خطره أكرمه بالرسالة وبعثه إلي ليكون للعالمين نذيراً، واختار له رجالاً أنجبتهم، ولكن لم ألق لهم بالاً ولم أحسب لهم حساباً، ولكنهم أثبتوا قيمتهم وكفايتهم، أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً وأعلاهم همة، وأثبتهم جناناً وأقواهم إيماناً، يالهم من عباد ليل وأحلاس خيل.

هنالك نهضت بروح غير الروح، وبقوة غير القوة، هي روح الرسالة وهي قوة الإيمان، وفاجأتك بحماسة وسرعة لا عهد لك بهما، فإنه لا عهد لك من قديم الزمان بالإيمان بقوته فنظرت إلي شزراً وظننتي من الغزاة الطامعين والملوك الطامحين وظننت أني خرجت لمصلحتي، ودافعي الجوع والفقر وقلة الموارد، فعرضت علي ما يشبع جوعة الزاحفين ويرضى الملوك الطامعين فإذا الأمر بالضد وليس الدافع إلا الشفقة عليك والحرص على إنقاذك من داهية الوثنية وشرور المدنية، فوقفت في سبيلي من غير جدوى وقاومتني من غير نتيجة، فلم تزل قوتك المادية تتحلل وتذوب أمام حرارة الإيمان وقوة الروح حتى وضعت أوزارك واستسلمت للقضاء الواقع، ولما زالت عنك دهشة الفتح أقبلت على رسالتي تدرسها وتتفهمها، فإذا هي خير الدنيا والآخرة، وإذا هي رسالة السلام والعلم والعقل، وإذا هي أساس المدنية ومعراج الإنسانية، فآمنت بها بلاد ودانت بها أمم، فأحلت لها الطيبات وحرمت عليها الخبائث ووضعت عنها إصرها والأغلال التي كانت عليها، ومنحتها الإمامة في العلم والدين، والسيادة في الحكم والسياسة.

وهنالك ـ لا أخفي عليك ـ وقعت كارثتي، بل كارثة العالم فقد ألهتني هذه الفتوح الواسعة والغنائم الزاخرة والكنوز العظيمة والمدنية الباهرة، التي لم يكن لي بها عهد، فأطفأت شعلتي وأخمدت حماستي، وبردت روحي، وابتلعت إيماني ووقع لرجالي ما أخبر به نبيهم صلى الله عليه وسلم:”ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم”، فأصبح رجالي غير الرجال أجسام كأجسامهم الأولى بل هي أروع، وملابس كملابسهم السابقة بل هي أفخر، ووجوه كوجوههم بل هي أشد نضارة وطراوة، ولكن أرواح باردة ونفوس خامدة وقلوب خاوية:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}[المنافقون:4].

هناك اعتراني كسل وفتور وإعياء، ورأيت الاعتزال عن معترك الحياة فإني لا أطيقه فرجعت أدراجي وانطويت على نفسي، لقد كان اعتزالي عن الحياة رزيئة إنسانية عامة وكارثة عالمية عظمى، فقد بقيت الأمم قطعاناً من الغنم لا راعي لها، وبقيت القافلة وقد جد بها السير وغاب عنها الخريت.

هنالك خبطت الأمم في مدنيتها وعلومها وصنائعها وسياستها، وهنا كانت مصيبتك فقد اكتشف لك المكتشفون وعلماء الطبيعة القوى الهائلة والوسائل الجبارة، وسخروا لك البخار والكهرباء، والماء والهواء، وكرسوا لك العلوم والحكم، ولكن استخفوا بالروح وهزأوا بالإيمان، وأهملوا تربية الأخلاق فأصبح تقدمك معوجاً وجاءت نهضتك الأخيرة نهضة هوجاء خرقاء، وكنت كشجرة برية تمتد فروعها وتطول على غير نظام وعلى غير نسق فهذا ذاهب إلى اليمين، وذاك إلى الشمال، وهذا وجد متسعاً فطال، وهذا تضايق فقصر، أو كولد ينشأ في مغارة دب أو جحر ذئب يجمع بين حدة الأظفار وقوة الساعد، وشراسة الأخلاق وصغر العقل.

لأجل ذلك وقع ما تشكو منه من تضخم الآلات واضمحلال الغايات، وسوء التصرف في القوة والخبط في العلم وفساد أخلاق المثقفين ونهامة الأدباء والمؤلفين وكذب الصحفيين وتزوير الزعماء والسياسيين وخرق الأطباء والمعالجين، وما تشكو منه من علة الروح واضطراب للقلب وانزعاج النفس فإن هذا كله ـ سامحني أيها العالم ـ من لوازم حضارتك وعقليتك التي خلعت ربقة الدين واستغنت عن هدي الأنبياء والمرسلين وأسست حياتها على القياس والتخمين، وعبادة المادة والقوة والشهوات.

ولو رأى أحد حضارتك في تكوينها لتنبأ بمثل هذه النتائج وأنذر منها كما يرى الإنسان بذرة فيتنبأ بثمرتها، لقد سرتني شجاعتك أيها العالم باعترافك بالإفلاس في الإيمان وأن مصانعك لا تنتجه وأنه لا يوجد في أسواقك ولا عند علمائك، وأن مصدره هو الرسول الأعظم الذي يستنكف من اتباعه فلاسفتك وحكماؤك وأكثر منهم قادتك وزعماؤك، فلا تستحي أيها العالم المتنور وأحرص على هذا الإيمان، وكن جاداً في طلبه مهما كلفك من التواضع والتعب، فإنك بدونه جسد بلا روح، وبيت بلا نور.

لا تعرض على مصنوعاتك من سيارات وزخارف وأدوات فقد أخذت منها الكفاية وفوق الكفاية، بل أريد أن أشكو إليك أن سياراتك قطعت خيلي العتاق التي كان يضرب بها المثل في الخفة والأمانة، والوفاء والغناء في الحرب، وقد أغرقتني زخارفك ومصنوعاتك بالبذخ والتبذير والراحة والكسل والاتكال على الآلات، فضعفت الأجسام ووهنت القوى وتعطلت أيد عاملة وانصبت دماء أجسامنا في أجسام غيرنا، فاسترد مني فضول مدنيتك لعلي أستعيد بعض قوتي ونشاطي وأخلاقي التي كنت فيها مضرب المثل.

لقد أعيتك أيها العالم معضلات مدنيتك وألغاز مجتمعك وإنها لتتحدى تشريع المشرعين وجهود المصلحين فتعجزها، فاطرح عنك أيها العالم الكبر والحياء وأقبل على هذا الكتاب الخالد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم واستفته وارجع إليه في ما ينوبك من الحيرة والعجز، وادرسه ككتاب لا عهد لك به من قبل وقد نزل اليوم ليرشدك ويأخذ بيدك، وانظر كيف يحل لك عقدة بعد عقدة ومعضلة بعد معضلة من حياة الفرد إلى حياة المجتمع، وفي السياسة والاقتصاد وفي المدنية والأخلاق، ويمنحك مبادئ ودعائم توسس عليها المدنية الصالحة وتجمع بها بين سعادة الدنيا والآخرة، إن هذا الكتاب المعجز يخاطب اليوم فلاسفتك وزعماءك بما خاطب به رجال القرن السادس المسيحي:

{قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلآَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المائدة:15ـ16].

غلبتك المادة أيها العالم فجئتني لا ترغب إلا في ما أحتوي عليه من كنوز الثروة والقوة ولا يهمك إلا ما يجري في بطني من عيون البترول فأعطيتك وأشبعت نهمتك، وإنما يعطي السائل على قدر همته وقد جئتني اليوم تسأل أعز ما عندي وأنفع للإنسانية، تسألني الإرشاد والتوجيه فأهلاً بك وسهلاً أيها الزائر الكريم ودونك المنهل العذب الصافي من الدين السماوي ومن الوحي المحمدي الذي احتفظت به طول هذه المدة فارتو منه ما شئت واستق منه الإيمان واليقين ومبادئ الحياة السعيدة والعلم الصحيح والعمل الصالح والخلق المستقيم والاتجاه الصحيح في كل عمل وحركة وفي كل دقيقة وجليلة، ذلك الاتجاه الذي لا يكون إلا بالإيمان بالله وبرسله واليوم الآخر والحساب والعقاب، تشرب هذه المبادئ من هذا المعين الصافي واستمد منه الحياة والقوة والشباب والرسالة، وأطلع عالماً فتياً مشرقاً يخلف العالم الشائب المظلم الذي قد فقد الروح والحياة والشباب، وأصبح لا يحمل رسالة للإنسانية.

العلامة الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني لندوي

×