المجتمع الذي يصلح لقيادة العالم

الحاجة إلى الإيثار وتقديم التضحية
9 يونيو, 2020
شهر رمضان
9 يونيو, 2020

المجتمع الذي يصلح لقيادة العالم

إن المجتمع الذي يقيمه الإسلام، هو المجتمع الفاضل، والمجتمع الصالح الذي يعيش فيه سائر أفراده ومن يتصل بهم بكرامة، وهو مجتمع متكامل الأجزاء، ومتكافل للإنسانية، ليس للمسلمين وحدهم، بل لجميع الجاليات والطوائف، لأنه يقوم على أساس عقيدة واضحة محكمة، وتعاليم مفصلة تغطي جميع جوانب الحياة، وتحدد سلوك المسلم مع غيره، وتكون عقلية حرة نبيلة، وذوقاً عالياً، ليس في العبادة، والمراسيم الدينية فحسب، بل في الأكل والشرب، والبناء، والعمل، والتعامل مع الناس، ويتحلى المسلم فيه بنزاهة، ورحابة صدر، ووحدة شعور، وانسجام ولا يسمح فيه بالإساءة إلى أحد، أما الإنسان فهو أحق بالإحسان والبر من غيره لأن الإسلام يعتبر الخلق عيال الله، فلا فضل عنده لأحد على أساس الطبقة، واللون، والعنصر، أو الثروة، إلا بالتقوى، ولذلك حدد الإسلام الحقوق والواجبات الفردية والاجتماعية، وجعل من هو في موضع الاحترام والنفوذ مسئولاً عمن هو أحط منزلة منه، وبذلك يسير المجتمع المسلم مترابطاً متماسكاً متضامناً.

ومن أهم ما يتصف به صاحب هذه العقيدة أنه يحمل الشعور بالمسئولية الذاتية، ورادعاً نفسياً، فيرتدع بنفسه، حتى في الأمور التي فيها الشبهات” دع ما يريبك إلى  ما لا يريبك” لأنه يؤمن بالله السميع الخبير، الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، وأنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.

والمؤمن بربه محترس في حياته، خاشع لله، راض بما  قدر له، لا يتبرم، ولا يتذمر، ولا يضطرب، ولا يتطاول، ولا يتكبر، ولكنه صاحب غيرة ومبدأ، وثقة بالنفس، فلا يستطيع أن يستعبده أحد، لأنه عبد لله وحده، ولا يجبن، ولا يخور، لأنه لا يخاف الموت، ولا يهن، ولا ينخذل لأنه لا يحب الحياة، فلا تغريه المنافع المادية، ولا تثنى همته الشدائد.

وقد بين القرآن الكريم أحكاماً دقيقة للحياة الاجتماعية التي تكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وحذر المؤمنين من عواقب اختراق هذه الحدود لكيلا يحدث شقاق في هذا البنيان، فقال: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأْلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإْيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ( وقال في موضع آخر:)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ( (الحجرات:11-12)

وقد أمر المسلم بكف اللسان، وكف اليد، وبإماطة الأذى عن الطريق لكيلا يؤذي أحداً، وعدم الاعتداء، وإن اعتدى عليه أحد، فسمح له برد الاعتداء، ولكن العفو والصبر أفضل منه، كذلك بين الإسلام حق الجوار، وأكد على أهمية حسن الجوار، وبين طرق الإحسان، وتنمية روح المودة بالتبادل والتعاون، وبين الإسلام طرق سلامة المجتمع بقطع ذرائع الفحشاء، والوقوع في أعراض الناس،  واتخذ الإسلام إجراءات وتدابير محكمة مشددة لكيلا يحدث تفكك، أو تشرذم، بل يبقى المجتمع مرتبطاً وموحداً.

هذا ما يتصل بالمجتمع الإسلامي الداخلي، وقد بين الإسلام مبادئ التعامل مع غير المسلمين، لكيلا يحدث صراع بين مختلف الفئات والطبقات، فيعيش المجتمع الإسلامي في جو المودة المتبادلة مع المجتمع غير الإسلامي. فمنع من استخدام لغة نابية، أو إساءة إلى أديان اخرى، وقادة تلك الأديان، فجاءت في القرآن الكريم نعوت الإكرام والاحترام للأنبياء الآخرين كعيسى عليه السلام، وموسى عليه السلام، وغيرهما من الأنبياء، وقال)وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( (الأنعام:108) وفي موضع آخر ) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( (البقرة:285)

ومن أسوأ الآثام والذنوب قتل النفس )ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق( و)من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً( وفي الحديث الشريف قصص وأمثلة لحسن السلوك مع الحيوانات والجزاء عليه، أو العقاب على الاعتداء على الحيوانات، وقد جمعت صفات المؤمنين الصادقين المحافظين على تعاليم دينهم في هذه الآيات القرآنية:

)وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَْرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا( (الفرقان:26-27)

لقد خصصت الآيات المذكورة الآداب الاجتماعية التي يعيش الإنسان في المجتمع الذي يتكون منها بكرامة النفس، تصان فيه حقوقه، وهو المجتمع الذي لا يكون فيه الإسراف ولا البخل، بل تكون الحياة حياة اعتدال واقتصاد، وتصان فيه النفوس، وكرامتها، لا يعتدي فيه أحد على غيره، ولا تنتهك فيه الحرمات، يصدق فيه الإنسان، ولا يشهد الزور، ولا يتدخل أحد في شؤون غيره، بل يسوده الصفح و العفو، ولا يترك الإسلام من يتعدى الحدود ويفسد النظام الاجتماعي، بل يتخذ تدابير رادعة، وله أحكام فيها صريحة، فقد أمر المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس، فإن بغت طائفة فأمروا بقتال الطائفة الباغية، )وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( (الحجرات:9)، وفضل الإسلام الصلح على الاعتداء بالقتل، والعفو والصفح.

إنها تعاليم اجتماعية مفصلة واضحة، وقد احتفظ المسلمون بها بمدى صلابتهم في عقيدتهم، وصدقهم مع ربهم، واتصف كثير من المؤمنين الصادقين بهذه الصلابة الإيمانية والليونة في السلوك والمعاملات، ويجب أن تجتمع هذه الصلابة والليونة في كل مؤمن صادق العقيدة، لأن عقيدة المؤمن تدعوه إلى التزام أوامر الله، والابتعاد عن نواهيه، فإذا قام مجتمع فيه هذه الصلابة والليونة فهو خير المجتمعات، وإذا قام مجتمع فيه هذا التوازن بين الحقوق الفردية والاجتماعية فهو أفضل المجتمعات.

والمجتمع الذي يصوره الإعلام المعاصر هو مجتمع إفساد هذه القيم، بل يصح القول إن الحضارة المعاصرة لا تدعو إلى مجتمع، بل إلى مجموعة من الأفراد لهم أنانيات، كل شخص يريد أن يخدم أنانيته أو يجري وراء نفعه الذاتي، ويحقق مآربه على حساب غيره، لا يبالي بشقاء غيره إذا حصلت له سعادة، أو تحققت له متعة النفس، ولم يفقد الإنسان فيها كرامته بل فقد مكانته.

إن العالم اليوم حائر مضطرب بين الأزمات، والصراعات والاعتداءات، ولا ينقذه من هذه الأزمات، إلا ذلك الإنسان المؤمن المتصلب في عقيدته المحافظ على تعاليم دينه الذي ينتمي إلى عباد الرحمن. وعباد الرحمن الذين يتصفون بهذه الصفات وهذه السلوكيات هم المفلحون، وهم أحق بقيادة العالم الحائر.

(محمد واضح رشيد الحسني الندوي)

×