عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (8)

ليلة مذبحة: عرض وتحليل
3 فبراير, 2021
شعائر الله تعالى وتعظيمها (3)
4 مارس, 2021

عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (8)

وأذكر مثالاً ثانياً، هو الخطر الأكبر الذي حلق على المسلمين والإسلام في عهد السلطان جلال الدين أكبر، وقد تحدثت عن تصميمه عن تحويل شبه القارة الهندية من الإسلام إلى البرهمية، ودين مزيج من العقائد والتقاليد والشعائر، وكانت مرحلة انتقالية حاسمة لم يعرف تاريخ الهند الإسلامي مرحلة أدق منها، هل تعرفون كيف استطاعت الهند الإسلامية أن تحافظ على دينها وعقيدتها، وكيف استطاع المجتمع الإسلامي، الذي وقع في براثن هذا الملك القوى العصامي، الذي قرر إقصاء الإسلام من الحياة والسلطة، واحتضن البرهمية، وشايع المتحررين والزنادقة من علماء الدين والفلسفة، وقد اجتمع حوله عدد من كبار الأذكياء والأدباء والمؤلفين وعلماء الفلسفة والعلوم العقلية(3)، ينفخون في قربته، ويبالغون في مدحه وإطرائه، ويصلون به إلى درجة “المجتهد المطلق، والإمام الكامل العادل” ومفتتح الألف الثاني، ويخيلون له أن نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد انتهت على الألف الأول، والسلطان هو صاحب الدورة الثانية، وإمامها(4).

إنها مأثرة رجل واحد، اسمه الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي (المتوفى 1034)، إن هذا الرجل كان عمري النسب، ولكنه اتخذ الكلمة التي نطق بها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يوم الردة، إمامه ورائده، إن أبا بكر قال: “أينقص الدين وأنا حي؟” وهو قال: “أينقرض الإسلام من الهند وأنا حي؟” ومن ذلك الحين ركز مواهبه، وجمع قواه – الروحية والعلمية – لتحقيق غاية واحدة، وهي إبقاء الهند في حظيرة الإسلام، وتحت راية نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وإنقاذ هذه البلاد العريقة في الإسلام من الردة العقائدية والحضارية، التي يتبناها ويقودها أكبر ملك في عصره يتسمى بالإسلام، وقد أصبحت هذه الغاية همه الوحيد، واستولت على مشاعره وتفكيره، فكأنه يتقلب على الجمر، ويبيت على حسك السعدان، يبكي دماً على غرفة الإسلام في داره، وينذر بالخطر الداهم بوجوده وبقائه في بلاد سقاها المسلمون بأزكى دمائهم وأغزرها، وقد أصبحوا فيها كالأيتام في مأدبة اللئام، كما قال طارق بن زياد فاتح الأندلس، واستعان في تحقيق هذه الغاية بكل وسيلة، من اتصال برجال البلاط ومراسلتهم(5)، والتأثير في عقولهم وإثارة الغيرة الإسلامية فيهم، واستنهاض هممهم لنصرة الإسلام، ومن تربية الدعاة والمربين، ونصبهم في ثغور الإسلام، ومراكز حساسة، ويوجههم في وقف هذا المد، والدعوة إلى الإسلام، والسعي في إعلاء شعائر الدين، وإحياء السنن النبوية، ونشر العلوم النافعة، ومحاربة البدع والمحدثات بجميع أنواعها، والدفاع عن عقيدة أهل السنة، إلى غير ذلك من الوسائل التي كانت ممكنة في عصره، وذلك كله مع عزوف عن المناصب الرسمية، وزهد وقناعة، وعزه نفس، واكتفاء بالتعليم والتربية، وتزكية النفوس، ودعاء الخلق إلى الله.

وبدأت مساعيه تتكلل بالنجاح، وكانت كل القرائن والشواهد تدل على أن الإسلام يلفظ نفسه الأخير في هذه البلاد، وأن أيامه قد انتهت، وبدأ غرسه يثمر، وبدأت في الأسرة الملكية ورجال البلاط وأركان الدولة حركة تحوُّل تبتدئ ضعيفة وئيدة، وتقوى على مر الأيام فتبدو جلية واضحة، فيموت الملك أكبر، ولا نعرف على ما مات عليه الرجل، ويخلف ولده السلطان نور الدين جهانكير (977-1036هـ)، فيعامل الشيخ بالحب والاحترام، ويصغى لنصائحه، ويقضي على كثير من سنن والده وما أحدثه، ثم يخلفه شهاب الدين محمد شاهجهان (1000-1076هـ) الذي يعرفه الجميع بمأثرته المعمارية الفريدة، “التاج محل”، وتستطيعون أن تقدروا اتجاهه، بما رواه التاريخ، أنه لما جلس على عرش الطاؤس المصوغ من الذهب الخالص، والمرصع بالجواهر الكريمة واللآلي الثمينة، والذي أنفق عليه مآت آلاف من النقود نزل من ساعته، وقال: لقد كان فرعون راعنا، خفيف العقل، تربع على عرش صنع من الخشب، وكفر بالله، وكان يقول “أنا ربكم الأعلى” وها آنذاك أجلس على هذا العرش، وأسجد لله تبارك وتعالى شكراً، ثم خر ساجداً.

ثم يخلفه السلطان محي الدين أورنك زيب عالمكير(6) (1028-1018هـ) الملك الصالح، الفقيه الزاهد، الغيور المجاهد، المحيي لكثير من السنن وشعائر الإسلام، المميت لكثير من البدع وآثار الجاهلية، الذي كان يسمى جده الأكبر، فيقول: الجد الأكفر، وهو الذي أمر بتدوين القانون المؤسس على الأحكام الإسلامية، والنصوص الفقهية، ليكون دستوراً للبلاد، ومرجعاً في الحياة الفردية والاجتماعية، ويسمى “الفتاوى العالمكيرية”، واشتهرت هذه المجموعة في البلاد العربية بـ”الفتاورى الهندية”، وهي تعتبر مصدراً كبيراً من مصادر الفقه الحنفي في العصر الأخير، وعليها الاعتماد في القضاء وفصل الخصومات، في شئون المسلمين الخاصة في المحاكم الهندية من زمن الإنكليز، وكان هذا الملك الذي حكم أكبر رقعة موحدة في هذه القارة بعد الإمبراطور “أشوكا”، لا يأكل إلا من كسب يده، يخيط القلانس ويبيعها، ويأكل من ثمنها(7)، وهو الذي أعاد الهند إلى الحياة الإسلامية والحكم بالإسلام مرة أخرى، ورد الأخطار المحدقة بهذه البلاد، وحفظ مستقبل الإسلام فيها لمدة طويلة، لو رزق خلفاء أقوياء، وقيض للمسلمين حكام وقادة عقلاء، ولم يبطروا نعمة الله، وحكموا هذه البلاد بيد من حديد، وعقل رشيد، لكان لتاريخ الإسلام الزاهي امتداد، ولما انقرضت الدولة الإسلامية، ولما حدث ما حدث مما يعرفه الجميع.

إلى من يرجع الفضل في هذه التحولات الكبيرة، وفي هذه الانقلابات العجيبة، وفي هذه الانتفاضة للإسلام؟ يرجع الفضل في ذلك إلى همة رجل اسمه الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي، ولا يزال المعول – رغم تغير العصر وتعقد الأمور، وانقراض عصر الحكومات الشخصية، وحلول عصر الجماهير والشعوب – على النفوس المؤمنة، الخاشعة الزاهدة، عالية الهمة، بعيدة النظر قوية الإرادة، التي تعاهد الله تبارك وتعالى، أن تقبل هذه التحديات الموجهة إلى الإسلام والمسلمين، وتقاوم هذا السيل الجارف الطاغي من الردة العقائدية الفكرية والحضارية، التي تتخذ كلمة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه “أينقص الدين وأنا حي” مبدءاً وشعاراً، وتهب لهذه الغاية التي لا غاية أفضل منها، كل حياتها ولذاتها ومواهبها، ولا ترى لحياتها قيمة وغناء إذا لم تتحقق هذه الغاية.

ليس للإصلاح والكفاح أسلوب واحد، ولكن المعول على الصدق والعزم:

وإنني إذ أضرب مثلاً بطرازين للتجديد، وإعادة الإسلام إلى مركزه في الحياة، والبعث الإسلامي الجديد، يرجع تاريخ أحدهما إلى القرن السابع الهجري، والثاني إلى القرن الحادي عشر الهجري، فإنني لا ألح على أسلوب واحد من الإصلاح والكفاح، والدفاع عن الإسلام، فلكل عصر أسلوب، ولكل بلد وضع خاص، ولكل بيئة وسائلها وإمكانياتها، والقرآن يقول: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ” [الأنفال:60] والحديث النبوي يقول: “الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها”، ولكنني ألح على قوة الإرادة وصحة العزيمة، وتملك الفكرة، ووضوح الغاية، وهو الذي تمثل بوضوح في هذين المثالين اللذين ضربتهما لكم، وصدق الله العظيم: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” [يوسف:111].

أمانة وعهد:

أنتم يا شباب الإسلام على ثغر من ثغور الإسلام، فلا يؤتين من قبلكم، إنكم تستطيعون بعزمكم أن تحققوا ما لا تحققه مؤسسات كبيرة، وحكومات كثيرة، فلها ملابساتها وقيودها ومشاكلها، ولها أجواء خاصة، ومصالح معينة قد تكون مرتبطة بها، هذه أمانة في أعناقكم، فارجعوا بها إلى بلادكم، وعيشوا بها، وموتوا عليها، وهنا على غلوة من هذا المكان(8)، وقعت غزوة أحد، وشاع في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استشهد، ومر رجل برجال من المسلمين، وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده، قوموا، فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم، فقاتل، حتى قتل”(9).

“ألا فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع”.

الهوامش:

(1) في مقدمتهم آرنولد صاحب تاريخ دعوة الإسلام (Preaching of Islam) راجع تعريب الكتاب “الدعوة إلى الإسلام” بقلم جماعة من الأساتذة المصريين ص: 250، و”رجال الفكر والدعوة في الإسلام” ج/1، ص: 306-307، الطبعة الرابعة، دار القلم الكويت.

(2) إقرأ على سبيل المثال قصة إسلام الأمير تغلق تيمور ملك كاشغر أحد ملوك التتار الكبار، لمجرد حديث دار بينه وبين الشيخ جمال الدين الإيراني في “دعوة الإسلام” لآرنلد ص: 265-267، والقصة مذكورة في “رجال الفكر والدعوة في الإسلام” الجزء الأول، ص: 318-320.

(3) كأبي الفيض فيضي وأبي الفضل، ابن الشيخ مبارك الناكوري، والأمير فتح الله الشيرازي، والحكيم علي الكيلاني وغيرهم، وإقرأ تراجمهم في “نزهة الخواطر وبهجمة المسامع والنواظر” للعلامة السيد عبد الحي الحسني رحمه الله تعالى، الجزء الخامس.

(4) إقرأ للتفصيل ترجمة السلطان جلال الدين أكبر في الجزء الخامس من كتاب “نزهة الخواطر” للسيد عبد الحي الحسني رحمه الله تعالى واقرأ المحضر الذي كتبه أبو الفيض فيضي في باب إمامة السلطان جمال الدين أكبر، ووصوله إلى درجة الاجتهاد.

(5) إقرأ رسائله الرقيقة في تصوير غربة الإسلام، وغلبة الكفر في آخر عهد السلطان جلال الدين أكبر، وما يكيده حذاق أعداء الإسلام من رجال الدولة، للإسلام والمسلمين، في مجموع رسائله الخالدة في الفارسة.

(6) إقرأ ترجمته الحافلة العاطرة في الجزء السادس من “نزهة الخواطر”.

(7) نفس المرجع.

(8) إشارة إلى موقع الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وقربها من مكان غزوة أحد.

(9) سيرة ابن هشام ج/2، ص: 83.

 

(الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى)

×