كيف يتغير المصير المحتوم؟ (2/ الأخيرة)

عذاب الله وآياته
13 أبريل, 2020
بون شاسع بين القول والعمل
13 أبريل, 2020

كيف يتغير المصير المحتوم؟ (2/ الأخيرة)

دراسة الخطوات والاستراتيجيات التي كانت وراء معركة “عين جالوت”،هي الجواب المقنع لسائل الماضي ولسائل الحاضر،واختيارتلك الخطوات والاستراتيجيات وتبنّيها مع تحديثها وتكييفها مع الواقع هو الطريق نحو تغيير مصير اليوم، فيجب علي المراقبين للأحداث،والمتابعين للماجريات،والمعنيين بشؤون الأمة أن يدرسوها دراسة متأنية،ونجملها فيما يلي:.

الأولى: الاستقرار الداخلي:۔ كان الملك قطز(رحمه الله) هو بطل هذه المعركة،وأول ما بدأ به لمواجهة هذه العاصفة التترية الهوجاء هو تحصين الداخل، وذلك من خلال تدابير تالية:

(أ) عزل قطز السلطان الطفل نورالدين عن ولاية مصر،واعتلي العرش بنفسه في 657هـ، لأن ولاية صبي كانت تغري الطامعين،وتدعو الي الثورة والفوضي.

(ب) جمع قطز كل من لمس فيه أثرا من آثار الطمع في الولاية وألجم أطماعهم وأخرس ألسنتهم بقوله:

“إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحكم) إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتَّى ذلك بغير مُلك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمر لكم، أقيموا في السلطنة مَن شئتم”(4). فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك.

(ت) أصدر أمرا بالعفو العام عن جميع الثائرين والمفسدين طمعا في قوتهم، وعملا بمبدأ التسامح مع الأهداف الصغيرة أمام الهدف الكبير.

الثانية: الاستقرارالخارجي:۔ بعد ما تمكن قطز من تحصين الداخل وتهدئته أقبل علي الاستقرار الخارجي، وحرص علي تحسين العلاقات مع أمراء الدول المجاورة لمصر،فبذل جهودا دبلوماسية حثيثة مع أمراء الشام،وحاول إقناعهم علي الالتفاف ضد عدو مشترك،فاستجاب له البعض وأنكر الآخرون،وفضلوا التعاون المباشر مع التتار، فالملك قطز إن لم يكسب مهمة الاسترضاء تماما ولكنه كسب معركة الاخلاص والأخلاق.

الثالثة: التربية الشعبية المعنوية:۔ والآن بدأ قطز(رحمه الله) يهتم بالإعداد الشعبي العام،واختارلذلك طريقين:

1-التربية بالقدوة:۔ أعلن في حلقة القوم جهرا:” أنا ألقي التتار بنفسي”(5) فأشعل قوله هذا الحماس في النفوس، وألهب المشاعر.

2-التربية بالتذكير:۔ وقف يخاطب الأمراء والشعب ويذكرهم بعظم الهدف ونبل الغاية وهو يبكي، فنفذت الكلمة شغاف القلوب،فضجوا جميعا بالبكاء،وأعلنوا الموافقة.

الرابعة: صدق العزيمة:۔ والآن آن الأوان ليدخل الأمر في طور الجد،ولا يجد الفتور طريقا الي الهمة،ولا يشرئب الخلل الي النية والعزيمة فأقدم بموافقة الجميع علي قتل رسل هولاكو(وكان لهذا القتل مبررات كثيرة:شرعية وسياسية) الذين جاؤوا برسالة لم تكن دبلوماسية في أي معنى، بل كانت إعلانا للحرب،فقد أعلن قطز قبول هذا التحدي بقتل الرسل.

الخامسة: التضحية في سبيل التجهيز:۔ بدأ في التجهيز السريع، فكانت هناك عوائق ومشاكل، من أهمها المشكلة الاقتصادية، فأراد فرض ضرائب جديدة واحتاج لذلك إلي فتوي شرعية من الشيخ العزبن عبد السلام (رحمه الله)،ولكن الشيخ اشترط لهذه الفتوي شرطين:

1- لا يجوز هذا الفرض الجديد الا اذا لم يبق في بيت المال شئ.

2-لا يجوز الا اذا باع الحكام والأمراء والوزراء ما يمتلكون حتى يتساوى في ذلك هم والعامة.

فتوي في منتهي الجراءة،والغرابة كذلك، ولكن استجابة قطزومعه الأمراء والوزراء ونزولهم علي فتوي الشيخ كانت أعجب،انصاع الجميع وتم تجهيز الجيش بطريقة شرعية.

السادسة: الإسترتيجية العسكرية الناجحة:۔ كان الملك قطز(رحمه الله) موفقا في إعداد الخطة والإستراتيجية العسكرية،تجلت عبقريته ونبوغه في الخطوات التي اتخذها، منها:

1-قرارحاسم:۔ قرر للقاء خروج مقدمة الحيش من مصر الي فلسطين،ليباغت العدو ويسبق بالمفاجاءة،وألح في طلبه الي أن انشرح صدور الأمراء فوافقوا،وقد صدق حدسه إذ استطاع قائد المقدمة المغوار ركن الدين بيبرس أن يهزم فرقة من التتر في الموقعة الأولي،مما ارتفعت به معنويات المسلمين بقدر ما انخفضت به معنويات التتر.

2- الاستدراج:۔ أوغرت الهزيمة الأولي صدورالتتر،فهاج هياجهم وخرجوا من قواعدهم العسكرية مسرعين، يلاحقون الجيش المسلم، ليلقنوهم درسا قاسيا علي هذه الجراءة،وكان ذلك من خطة قطز(رحمه الله) ليستدرج العدو الي ساحة مناسبة للقتال،وكانت هي ساحة”عين جالوت”،أغراهم حتي اضطروا إلى النزول إليها،وكان ذلك أول الفتح.

3-الإعداد المعنوي:۔ قضى المسلمون الليلة التي سبقت نهار المعركة في القيام والابتهال والدعاء والرجاء الي أن حان الفجرفصلوا في خشوع،وخرجوا من صفوف الصلوة الي صفوف القتال،وما ان أشرقت الشمس الا ولاح للمسلمين جيش التتار من بعيد.

4-الادخار المادي:۔ منذ أن بزغ فجرالصباح بدأت مقدمة الجيش تنساب من فوق التلال الي ساحة القتال، لا مرة واحدة، بل في مراحل وفي فرق،للتعمية وإلقاء الرعب،وادخر قطز واحتفظ بالقوات الرئيسية خلف التلال وقرر أن لا تشترك في المعركة الا بعد انتهاك قوات التتار.

5-الاستنزاف:۔ وكان من أبرز الإسترتيجية العسكرية للملك قطزاستنزاف قوة العدو، وقد نفذ خطته هذه في أربعة مراحل:

الأولي:۔ لما رأى قائد جيش التتر كتبغا مقدمة الجيش المسلم في ساحة القتال استقلّها وظن أنها الجيش الإسلامي كله، فأرادأن يحسم المعركة لصالحه من أول لحظاتها،لذلك قرر أن يدخل الساحة بكامل جيشه،وهذا تماما ما كان يريده الملك المظفر قطز،وكانت هي المرحلة الأولي من خطة الاستنزاف.

الثانية:۔ تمثيلية ناجحة ممتازة قام بها بيبرس للانهزامية، والتراجع، والانسحاب التدريجي المدروس أمام الجيش التتري ليتم سحبهم الي داخل سهل عين جالوت.

الثالثة:۔ نزول الكتائب الاسلامية الي ساحة القتال بمجرد إشارة من قطز عن طريق دق الطبول والأبواق، وانقضاضهم علي العدو في دقائق معدودات، وإحاطتهم إحاطة السوار بالمعصم۔

الرابعة:- أقوي ما استعان به الجيش الإسلامي في تنفيذ خططه هو النظام السري الإشاري لنقل الأوامر في دقائق معدودات من الملك الي قائد الحيش، ومنه الي الأمراء والجنود،عن طريق دقات الطبول والأبواق دقات معينة، متفق عليها قبل الخوض في ساحة القتال.

الضربة القاضية:۔ لما أدرك التتر خطورة الموقف قاتلوا قتالا مستميتا،قتال من يدفع عن نفسه الموت الزؤام الذي رآه بأم عينيه،فلاقي المسلمون معاناة شديدة،وكاد أن يداخلهم بعض الضعف،وهنا نزل الملك قطز رحمه الله بنفسه إلى ساحة القتال، وألقى بخوذته علي الأرض،تعبيرا عن اشتياقه للشهادة،وبعده عن الوهن،وأطلق صيحات شجعت المسلمين وأرعبت التتر،وألقي بنفسه وسط الأمواج المتلا طمة من البشر، واستمرفي القتال إلى أن أصيب فرسه فترجل وثبت ثبوت الجبل، وقد صدّق قوله: أنا ألقي بنفسي التتار،فارتد الضغط علي التتار وضاقت عليهم الساحة،وانفرجت للمسلمين، وهكذا قضي علي الأسطورة الشهيرة: إن التتار قوة لا تهزم.

اللمسات الأخيرة:۔

1- قصة التتار والمسلمين من الغلبة إلى الهزيمة،من القوة إلى الضعف ومن الضعف إلى القوة،لاأصفها بأنها “غريبة” كما وصفها بعض المؤرخين، ولكنى أراها آية من آيات الله،ودليلا ساطعا على سننه من التدافع والتداول والتغييروالتنكيل.

2- تمتاز هذه القصة بين القصص الأخرى بالسرعة المدهشة في كلا الطرفين من التطور والتدهور، ومن الصعود والسقوط فأول هجوم قام به التتر على العالم الإسلامي هو في 616هـ، وفي أقل من أربعين سنة اخضعت هذه القوة الفتية بل خضدت قوة دامت في الحكم أكثر من ستة قرون، واستغرقت مساحة ضخمة من العالم،ولكن فجأة صدمتها ساحة “عين جالوت”في 658هـ صدمة عنيفة، وأعاقت سيرها الطبيعي،ولا أجد لهذه القصة فيما طرأعليها من تغيرات سريعة مثيلا إلا في قصة الحرب التي دارت بين قيصر الروم هرقل وبين ملك الفرس خسرو بن هرمز سنة (615) مسيحية، وفيما تلاها من أحداث.

3-ولو تأمل متأمل في أحداث هذه القصة لاستكشف سر هذه السرعة، فقد أسرع الانحطاط إلى الدولة الإسلامية لأنها كانت استجمعت أسبابها، وانحرفت منذ أمد بعيد عن أسباب البقاء والثبات، فكانت كالحطب الجاف الذي أشعلت فيها نيران التتر،فالانهيار الذي أصاب الدولة الإسلامية جلبه اليها خواءها الروحي والمادي أكثر من قوة التتر المادية والمعنوية،وبعد ما تم للتتر الاستيلاء فقد طواهم الزوال والاضمحلال أسرع مما طوى المسلمين،وسبب ذلك محاولة المسلمين للعودة إلى أسباب البقاء والثبات في جانب، وإمعان التتر في الظلم والقهروالاستبداد في جانب آخر.

الهوامش:

(4) “قصة التتاري البداية إلى عين جالوت”، د/ راغب السرجاني، ص: 245.

(5) “المصدر السابق”، ص: 272.

 

(سلمان نسيم الندوي)

×