منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (10)

منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (9)
2 أغسطس, 2022
السيد أبو ظفر الندوي: حياته ومآثره
21 أغسطس, 2022

منهج الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في الفكر والدعوة (10)

الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

التعريب: محمد خالد الباندوي الندوي

أصول الدعوة عند الشيخ أبي الحسن:

وكان الشيخ الندوي يعبر عما يجول بخاطره من حكم الدعوة بأسلوبه المؤثر المقنع، وكان مما يوصي الداعي الذي أراد النجاح في حقل الدعوة: لابد أن يدخل من أبواب مفتوحة دون مغلقة، لأنه إذا ابتغى وراء ذلك فليس له إلا أن يكسرها و يأتي إليه قسرًا من غير إذن صاحبها، وذلك لا محالة يؤدي إلى التنافر والتباغض، ويعتبر الداعيَ بمثابة عدو له، فلا يهش إليه، وإذا رأى ما يعامله الداعي لجأ إلى الفرار والتخلص منه، ولكن الداعي إذا راعى أداب اللقاء -وذلك أن لا يدخله حتى يستأنس به – وأكرمه حق الإكرام، ملكه قلبه،فيفتح له أبوابه كلها، فلا عتاب ولاملامة على الضيف؛ بل يكرم عند نزوله.

ويحرض القرآن الكريم رجال الدعوة على أن يختاروا الحكمة في دعوتهم، وذلك مما أرشد إليه نبينا المصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم في الآية فقال: “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ”.(آل عمران:64)

وعبر عن ذلك القرآن الكريم بكلمة “سواء” وأكد على اتخاذ الحكمة في توجيه الدعوة إلى الله مرارًا وتكرارًا،وإن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل نموذج له.

وإن الداعي إذا أخذ في الحديث الذي يألفه المدعو ويستأنس به، فإنه يملك عليه مشاعره وأحاسيسه، ويترك كلامه أثرًا في نفسه، ويمهد ذلك الأسلوب الحكيم المؤاسي السبيل لقبول دعوته،وهذا هو الباب المفتوح الذي يستطيع به الداعي أن يفتح منافذ القلوب العاصية المتحجرة ،ولابد له أن يكون عالمًا بتاريخ الإنسانية، مطلعًا على طبائع المدعوين ونفسيتهم، ليتكمن من عرض الدعوة عليهم مراعيًا طبيعتهم.

وقد راعي الشيخ الندوي في توجيه القادة والزعماء الأسلوب الحكيم المتدفق بالروح الإسلامية،خاطبهم بأسلوب صريح غير مجامل إلا أنه لم يقصد به النقد القاسي بحيث لم يعتبره المدعو مخالفًا له أو عدوًا في الفكر والعقيدة؛ بل اعتبره صديقًا مؤاسيًا له، ناصحًا مخلصًا في دعوته، يتجنب فيه جهد المستطاع الإساءة إلى عواطفه، لكي يبقى باب النصح والتوجيه مفتوحا،وقد صرح كل نبي من الأنبياء في دعوته بالنصح حيث جاء : “وأنا لكم ناصح أمين”.

لأن من طبيعة المدعو أنه إذا علم أن الداعي ليس مخلصًا في دعوته، وإنما يحثه عليها غرضه الدنيوي،انقلب مخالفًا له في دعوته تلك، ويفقد به الداعي تأثير كلامه وسحره على النفوس.

يحتاج الداعي لتقريب الناس إلى دعوته، إلى مراعاة طبائع الناس، ويلزم له أن يعرض أمامهم ما تستسيغه قلوبهم وتألفه نفوسهم، وتعترف به أذواقهم من المفاهيم السائدة والمعاني المسلمة لديهم، ثم يحتاج إلى جعل أسلوب كلامهم أسلوبًا لينًا هادئاً رزينًا مفعمًا بالحب الصادق، متدفقًا بروح الإخلاص، فينفذ إلى القلوب، ويملك على المشاعر والأحاسيس، فتتأثر به النفوس، فإن أسلوب دعوة الشيخ الندوي كان يمتاز بالحكمة والموعظة الحسنة وتوجيه الدعوة بالمنهج الذي هو أفضل وأصلح، وأكد عليه الشيخ الندوي في كتاباته وخطبه على أهمية مراعاة الحكمة في توجيه الدعوة، ولاشك أن ذلك من آثار المدرسة النبوية التي تنعكس في طبيعته لأنه عاش وتربى في ظلال السيرة النبوية الوارفة.

فقد درس الشيخ الندوي سيرة النبي الأعظم وسبر أغوارها وأنجادها؛ بل لا نبالغ إذا قلنا أنه رضع بلبانها، ولما عهدت إليه مسئولية التدريس في دار العلوم لندوة العلماء ازداد عكوفه على مطالعة كتب السيرة النبوية، يعيش في أجوائها،يستمتع بجمالها، ويستروح رياها، ولا يتحدث إلا عنها، وكان للشيخ الندوي شغف بدراسة الحديث النبوي الشريف كما كان ولوعًا بالسيرة النبوية، وكان له أسلوب خاص ينفرد به عن غيره من أساتذة الجامعات والمدارس الإسلامية، فقد كان يسهب الكلام على الأحاديث التي كانت تتعلق بالمجتمع الإنساني ويفيض في الشرح والتحليل،لا يكتفي بالسرد المطلق كعادة المدرسين،وإنما يشرح شرحًا وافيًا يقتضيه المقام ثم يطبق ما جاء فيها على الواقع المعاش،نجح الشيخ الندوي في دراسة السيرة النبوية والأحاديث الشريفة في أخذ المفاهيم القيمة واستنباط الأصول الدعوية التي دعا إليها طول حياته، واستفاد منها في حياته الدعوية.

أنظر على سبيل المثال ما كتبه الشيخ الندوي في السيرة النبوية خلال سرد  سعد بن عبادة حينما صدرت منه جملة ” اليوم يوم الملحمة” أفاض الشيخ الندوي في بيان الحكمة النبوية واستنبط من المنهج النبوي للدعوة أصولا رائعة تنير للعاملين في حقلها السبل، وتبدد الظلمات، وكل ذلك في أسلوب بليغ مؤثر يقول:   

“ولما مر سعد بن عبادة بأي سفيان في كتيبة الأنصار، قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشًا، فلما حاذاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته شكا إليه ذاك أبو سفيان، قال: يا رسول الله! ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: وما قال؟ قال: كذا وكذا.

فاستنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة سعد، وقال: “بل اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشًا، ويعظم الله الكعبة”، وأرسل إلى سعد، فنزع منه اللواء، ودفعه إلى قيس ابنه، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار إلى ابنه.

ولم يزد الرسول الملهم أن أبدل حرفًا بحرف، وأبًا بابن، فعالج نفس أبي سفيان المكلومة – وكان في حاجة إلى تأليف القلب – من غير أن يسيء إلى سعد، صاحب سوابق في الإسلام. (السيرة النبوية، ص: 338)

×