ذكرى حبيب ومنزل

عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (3)
1 أكتوبر, 2020
دول الخليج.. ومستقبل «التطبيع» مع الكيان الصهيوني
1 أكتوبر, 2020

ذكرى حبيب ومنزل

بكى الشعراء على أطلال ديار الحبيب في كل زمان ومكان، لأن زيارة الأطلال، تجدد الذكريات، ذكريات اللقاء الحلوة، وذكرى الوجد والشوق إلى اللقاء، فكل دار بصاحبها تعرف، وقد عرف كثيرون برثائهم وحنانهم إلى حبيبهم ومنزله، فخلدوا في تاريخ الأدب معلقات لا يزال الأدب العربي يعتزَّ بها، ويدرسها كل طالب أدب، وتاريخ، فخلدت بها شخصيتهم، ولم يكن لهم في هذا الرثاء، أو التغزُّل بدار الحبيب ورسوم الديار وأطلالها، هدف إلا إطفاء حرّ فؤادهم المشعل، وقد قال امرئ القيس في لاميته المشهورة:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل

وإن شفائي عبرة مهراقة

فهل عند رسم دارس من معول

إن الحب عبارة عن وله وحنان، ووجدان قلبي، تتحكم فيه العواطف، وقد كانت الأندلس بمثابة دار الحبيب بتاريخها المجيد وعزها، وقصورها الجميلة رائعة الفن، وجمالها الخلاب، فأثارت أحلى الذكريات وأقساها في آن واحد، وتتجدد هذه الذكريات في الذهن كلما يزورها أو يمرّ بأطلال ديارها شاعرٌ نشأ على أحلى ذكرياتها، رغم أن عينه لم تر جمالها في عهد صباها، فتبكى هذه الذكريات القلوب وحتى بعد مضي هذه المدة الطويلة على ذبول هذه الزهرة.

ويسجل كل شاعر ذكرياته، فمنهم من يبكى قصورها، وحدائقها الغناء، ومنهم من يبحث فيها عن تلك الروح وحقيقة الجمال التي جعلتها جنة الأرض وصورة النعيم، وقساوة تلك اليد الآثمة التي شوَّهت وجهها الجميل، ويختلف في وصفها شعراء حسب ذوقهم، واتجاههم الأدبي والفكري، فمن شاعر يقف ويبكي من ذكرى الحبيب وداره، ويرسل عبراته عليه؛ وشاعر مفكر يقول:

“ليست الحمراء في غرناطة، وقصر التاج في آجرا اللذان خضع لجمالهما وجلالهما كبار الفنانين الناقدين وعظماء العباد الزاهدين، ليست إلا صدقة من صدقات بعثته”.

عاش أمير الشعراء أحمد شوقي (1868-1932م) والشاعر والمفكر الإسلامي الهندي الشهير محمد إقبال (1877-1938هـ) عصر النهضة العلمية التي غزت فيها المادة والعلم على الروح، والفكر الصميم، والذوق الشرقي الأصيل، وبسطت نفوذها وحلت مشاعر القومية والولاء إلى الطوائف والمذاهب الفكرية المستوردة محل القرابة الإسلامية والاعتزاز بالتراث الإسلامي، وقد زار الشاعران، شوقي وإقبال “الأندلس” وخلّدا ذكرياتهما في قصائد رائعة تصور وجدهما على فراق الحبيب الذي تجددت ذكرياته في الأطلال، والقصور التي شيدها وعاش فيها دهراً، ومهما اختلف اتجاه الشاعرين ووصفهما لآثار العزّ والمجد، فإن الحبيب واحد.

يقول أمير الشعراء شوقي تمهيداً لقصيدته:

“لما وضعت الحرب الشعرية أوزارها، وفضحها الله بين خلقه وهتك إزارها، ورمم لهم ربوع السلم وجدد مزارها، أصبحت وإذا العوادي مقصرة، والدواعي غير مقصرة، وإذا الشوق إلى الأندلس أغلب، والنفس بحق زيارته أطلب، فقصدته من “برشلونة” “فبلغت النفس بمرآه الأرب، واكتحلت العين في ثراه بآثار العرب”.

ويقول شوقي: “وكان البحتري رحمه الله رفيقي في هذا الترحال وسميري في الرحال”، فاقتدى شوقي بقصيدة البحتري في ذكرى إيوان كسرى التي مطلعها:

صنت نفسي عما يدنس نفسي

وترفعت عن ندى كل جبس

فكلما وقف بحجر، وطاف بحجر تمثل بأبياته وأنشد قائلاً:

اِختِلافُ النَهارِ وَاللَيلِ يُنسي

اُذكُرا لِيَ الصِبا وَأَيّامَ أُنسي

وَصِفا لي مُلاوَةً مِن شَبابٍ

صُوِّرَت مِن تَصَوُّراتٍ وَمَسِّ

عَصَفَت كَالصِبا اللَعوبِ وَمَرَّت

سِنَةً حُلوَةً وَلَذَّةُ خَلسِ

وَسَلا مِصرَ هَل سَلا القَلبُ عَنها

أَو أَسا جُرحَهُ الزَمانَ المُؤَسّي

ويقول:

يا اِبنَةَ اليَمِّ ما أَبوكِ بَخيلٌ

ما لَهُ مولَعاً بِمَنعٍ وَحَبسِ

أَحرامٌ عَلى بَلابِلِهِ الدَو

حُ حَلالٌ لِلطَيرِ مِن كُلِّ جِنسِ

كُلُّ دارٍ أَحَقُّ بِالأَهلِ إِلّا

في خَبيثٍ مِنَ المَذاهِبِ رِجسِ

نَفسي مِرجَلٌ وَقَلبي شِراعٌ

بِهِما في الدُموعِ سيري وَأَرسي

ويقول:

مَن لِحَمراءَ جُلِّلَت بِغُبارِ ال

دَهرِ كَالجُرحِ بَينَ بُرءٍ وَنُكسِ

حِصنُ غِرناطَةَ وَدارُ بَني الأَح

مَرِ مِن غافِلٍ وَيَقظانَ نَدسِ

ويقول:

سَرمَدٌ شَيبُهُ وَلَم أَرَ شَيباً

قَبلَهُ يُرجى البَقاءَ وَيُنسي

عَرَصاتٌ تَخَلَّتِ الخَيلُ عَنها

وَمَفاتيحُها مَقاليدُ مُلكٍ

باعَها الوارِثُ المُضيعُ بِبَخسِ

خَرَجَ القَومُ في كَتائِبَ صُمٍّ

عَن حِفاظٍ كَمَوكِبِ الدَفنِ خُرسِ

رَكِبوا بِالبِحارِ نَعشاً وَكانَت

تَحتَ آبائِهِم هِيَ العَرشُ أَمسِ

حَسبُهُم هَذِهِ الطُلولُ عِظاتٍ

مِن جَديدٍ عَلى الدُهورِ وَدَرسِ

وتجددت آلام أحمد شوقي في نكبة دمشق فقال:

بالأمس قمت على الزهراء أندبهم

واليوم دمعي على الفيحاء هتان

لو لا دمشق لما كانت طليطلة

ولا زهت ببني العباس بغدان

مررت بالمسجد المحزون أسأله

هل في المصلى أو المحراب مروان

فلا الأذان أذان في منارته

إذا تعالى ولا الآذان آذان

إنها إكليل دموع وضعه الشاعر العربي الذي جاشت قريحته: على قبور أمجاد العرب، ولم يكن في وسعه إلا أن يبكى على المجد الذي عصفت به الرياح العاتية، لتقلبات الأيام.

وزار الأندلس شاعر الهند العظيم محمد إقبال قبل الحرب العالمية فوقف فيها وقفة مذهلة، فقد كان حزنه وأساه على هذه الخسارة التي منيت بها الأمة الإسلامية حزناً مضاعفاً، إنه لم يتعود على أن يبكى على أطلال الديار، أو الحدائق، وإنما كان حزنه على خسارة من عمروها، فكان يلقى نظرة على تلك المباني الصماء الخالية والجوامع التي دوي فيها الأذان قروناً، فتجددت آلامه، وتذكر أهلها الذين رفعوا هذه المباني وشيدوها، وتذكر العقيدة التي كانوا يدينون بها، ورسالتهم التي كانوا يعيشون لها، فجاءت قريحته الوقادة المسلمة بقصيدة خالدة أثناء زيارته لجامع قرطبة، قال فيها:

“تدرين أيها المسجد العظيم في وجودك لهذا الحب البريئي.

وهذه العاطفة القوية التي كتب لها الخلود.

إنها لا تعرف الزوال والانقراض.

إن البدائع الفنية إذا لم ترافقها العاطفة ودم القلب والحب.

أصبحت مصنوعات سطحية من لون أو قرمد أو حجر.

أو لقطة كتابة أو صوت لا حياة فيها ولا روح.

إن المعجزات الفنية لا تعيش إلا بالحب، ولا تقوم إلا على العاطفة والإخلاص.

الحب هو الذي يفرق بين قطعة من حجر وقلب خفاق حنون للبشر.

فإذا فاضت منه قطرة على الحجارة الصماء خفقت وعاشت.

وإذا تجردت عنه القلوب الإنسانية جمدت وماتت”.

ويقول في عقيدة مؤمن ودلال شاعر محب:

“إن بيني وبينك أيها المسجد العظيم

نسباً في الإيمان والحنان، وتحريك العاطفة وإثارة الأخران”.

وقد يتساءل المرء ما علاقة شاعر الهند العجمي بآثار العرب البعيدة في أرض الأندلس، إنها ليست بمقدسات فرض تقديسها، فيجيب الشاعر نفسه على هذا السؤال بعد أن أظهر نسبه في الإيمان، فقال:

“انظر أيها المسجد إلى هذا الهندي الذي نشأ بعيداً عن مركز الإسلام ومهد العروبة، نشأ بين الكفار وعباد الأصنام، كيف عمر قلبه الحب والحنان؛ وكيف فاض قلبه ولسانه بالصلاة على نبي الرحمة الذي يرجع إليه الفضل في وجودك، كيف ملكه الشوق وكيف سرى في جسمه ومشاعره التوحيد والإيمان”.

وأخيراً يخاطب أسبانيا وهو يقصد العودة:

” أسبانيا أنت أمينة دم المسلم.

مثل الحرم مقدسة في عيني.

آثار السجود مدفونة في ترابك.

وآذان صامتة يتناقلها نسيمك”

هذه هي الدموع التي أرسلتها العيون على ذكريات الأندلس، وقد تغنى بها شعراء في أيام مجدها؛ ورثاها شعراء بعد درسها، إلا أن هذه القصائد الطويلة التي تضمها الدواوين، ويضيف إليها الشعراء والأدباء بأدوارهم تحمل درساً وعبرة، فقد ذهبت مثل الأندلس قلع الجمال والفن وحصون القوة والمناعة، وأبطال لم يعرفوا الهزيمة، والتراجع، وساسة وحكماء خضعت لهم الجبابرة والأباطرة، في مجاهل التاريخ، والأمر الذي يميز الأندلس أنها استرعت هذا الانتباه منقطع النظير من الشعراء والأدباء، لأنها كانت مركز العلم والفن، ومهد الحضارة والثقافة، وقد واجهت دويلات إسلامية أخرى مصير الأندلس؛ ولم يبق لها أثر، ولم يذكرها شاعر أو كاتب، وستظل الأندلس درساً وعبرة للأجيال الحاضرة والقادمة”.

(محمد واضح رشيد الحسني الندوي)

×