البلايا والمحن تزيدنا إيمانا ويقينا

رمضان شهر الرحمة والمغفرة
9 يونيو, 2020
القوة التي انتصرنا بها على غيرنا من الأمم
30 يوليو, 2020

البلايا والمحن تزيدنا إيمانا ويقينا

انطلقت الأمة الإسلامية من أرض الحجاز غريبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا”،وعندما دعا النبي صلي الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام والإيمان رفضوا دعوته؛ بل وعادوه وآذوه إيذاء يتألم منه كل ذي قلب وعقل، ولما ضاقت عليه الحياة في مكة المكرمة خرج إلى الطائف بحثًا عن أعوان وأتباع جدد، ولكن أهلها لم يستقبلوه استقبال العرب للعرب، ولم يحتفوا به احتفاء الكرام بالكرام، بل لاقوه بالسخرية والاستهزاء والتنكيت به أشد التنكيت،قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سألته زوجته عائشة رضي الله عنها: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟:” لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا”.

وبذلت قريش جهدها في زجرالناس عن الإيمان به وصرفهم عن الاستماع إليه، وتصدي أصحابه بأنواع العقاب والتعذيب، وهم عاجزون عن الدفاع والذود عن أنفسهم،بل لا يقدرون على عبادة ربهم علنًا وأداء الصلاة في المسجد الحرام، لما أسلم أبوذر أمره النبي صلى الله عليه وسلم بكتمان إيمانه وقال: يا أباذر! اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل، ولكن إيمانه القوي حمله على ما لا نتصوره، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: “يا معشر قريش! إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله”. فقالوا: “قوموا إلى هذا الصابئ”، قال أبو ذر: “فقاموا فضربت لأموت فأدركني العباس فأكب علي”، ثم أقبل عليهم فقال: “ويلكم تقتلون رجلاً من غفار ومتجركم وممركم على غفار فأقلعوا عني”، فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع بي مثل ما صنع بالأمس، وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالأمس، قال” فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله.

وبين الإيمان والإبتلاء صلة قوية، قال الله تعالي:” الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”(العنكبوت:1-3) وقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله سعد يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟: ” الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، حَتَّى يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ ذَاكَ فَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ ذَاكَ”.وما زاد الإبتلاء الصحابة رضي الله عنهم إلا إيمانًا، كما شهد الله تبارك وتعالى حيث يقول: “وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا”. ولقد شحن هذا الإيمان قلوبهم قوةعجيبة مكنتهم في الأرض،وأخضعت لهم الدنيا، وتحقق وعد الله، والله لا يخلف الميعاد،يقول الله تبارك وتعالى:”وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون”.

ثم اضمحلت هذه القوة واستبدلت بحب الرفاهية والرخاء، وأضعفت حياة الترف صلة المسلمين بربهم ودينهم، وأصابهم الوهن،قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”.

تواجه الأمة الإسلامية اليوم في كافة أنحاء الأرض صنوفًا من المحن وأجناسًا من الشدائد، وهي راكدة في سبات عميق، وغفلة مزرية،لا تحرك منها ساكنًا، ولا تنبهها من غفلتها، وإنما يبعث الله عليها البلايا والخطوب لكي يردعها عن جرائمها، فتتوب منها وترجع إلى ربها، يقول الله عزوجل:”ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون”.

ولا حياة للشعوب والأمم إلا إذا اعتبرت بواقعها، وعادت إلى وعيها، وأصلحت أمرها، اللهم اهدنا سواء السبيل، وأنقذنا مما نحن فيه من الوهن، وأعنا على إصلاح نفوسنا، يا رب العالمين.

(جعفر مسعود الحسني الندوي)

×