شعائر الله تعالى وتعظيمها (9)

Test
29 سبتمبر, 2021
أخوة ضائعة… متى تعود وكونوا عباد الله إخوانا
29 سبتمبر, 2021

شعائر الله تعالى وتعظيمها (9)

فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي

تورُّع الصحابة الكرام:

بلغ الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم من الحيطة والتوّرع حدًّا جعلهم يفكرون آلاف مرة إذا ألجأءتهم الضرروة لسؤال شيء، كيف يسألون؟، فيتهيبون في سؤال نبيهم خشية أن يقعوا خلال السؤال في أدنى إساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول براء بن عازب رضي الله عنه وهو يصوِّر هذه الحالة:

” إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب”. [فتح الباري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال: 20/340].

ووردت روايات عديدة أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينتظرون قدوم أعرابي يسأل فيسمعوا، فجاء في رواية “كنا لنتمنى الأعراب – أي قدومهم – ليسألوا فيسمعوا” [المصدر نفسه).

فنظرًا إلى بلوغهم غاية الاحترام والتورع في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أثنى القرآن عليهم وشهد باحترامهم وحسن أدبهم كما ورد في هذه الآية “إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ” [الحجرات:3] أي نجحوا في هذا الامتحان وأثبتوا تقواهم بأعمالهم الصالحة وطاعتهم الكاملة لله ولرسوله، فنالوا أجرًا عظيمًا ومغفرة عظيمة.

منع رفع الصوت:

“إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” [الحجرات:4-5].

ذكر في هذه الآية القرآنية غير الصحابة، أي الأعراب الذين يأتونه من القرى والبادية، وكانوا أشدّ جفوة وبداوة، لا يعلمون شيئًا من الأدب واحترام الكبار، وآداب التخاطب والحديث مع الناس حسب منازلهم.

قدم أعراب من البادية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ونادوا يا محمد يا محمد أخرج إلينا ليعرضوا عليه حاجاتهم، رغم أن هذه المناداة لم تكن بنية سيئة، بل كانت عن جهل، لا يُعْتَبر سوء الأدب إلا سوء أدب، وإن لم يكن بنية فاسدة، ولذلك نبه القرآن إلى ذلك أن الذين يدعونك من وراء الحجرات، أكثرهم غير عقلاء، إذ العقل يقتضي حسن الأدب، ومراعاة العظماء عند خطابهم، فهم لا يعقلون كيف يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم وكيف يعرضوا عليه ما يحتاجون إليه، ولو أن هؤلاء المنادين لم يزعجوا النبي صلى الله عليه وسلم بمناداتهم،وصبروا حتى يخرج إليهم لكان ذلك الصبر خيرًا لهم، وأفضل عند الله وعند الناس لما فيه من مراعاة الأدب في مقام النبوة.

إنهم لم ينادوه بنية سيئة، ولذلك لم ينزل بهم العقاب، بل اقتصر على نصحهم وتقريعهم، وعفا عنهم، ولقن جميع الذين يعيشون في المدينة والحضر مع الذين كانوا في البادية، أن يراعوا أدب النبي صلى الله عليه وسلم ويعظموه ويوقروه، وقد استأثر به الله تعالى واصطفاه، وله  مكانة عظيمة لا يمكن نيلها لأحد منهم، وإن كان منهم، اختاره الله لنفسه، ويحوطه برعايته الخاصة، ويوحي إليه “وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” [النجم:3-4].

فيتضح من ذلك أن كل ما ينطق أو يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلا بوحي من ربه، ويوصل إلى الناس قول ربهم لأن الله تعالى لا يخاطب أحدًا مباشرة، لأن الإنسان لا يستطيع أن يتحمل كلام الله مباشرة.

وإن الذين نادوا النبي من وراء الحجرات كان عددهم قليلاً، وهم من الأعراب السذج البسطاء، وأما عامة المؤمنين فكانوا غاية في الاحترام والتعظيم وحسن الأدب، حتى أنهم لا يستطيعون أن يرفعوا إليه أنظارهم هيبة وإجلالاً؛ فقد قال بعضهم: “ما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له”. [الشفا للقاضي عياض، فصل في عادة الصحابة: 38].

فهذه الشهادة تدل على أن المنادين بصوت عال كانوا أعراباً بسطاء، وقليل ما هم، وعامة المؤمنين وأكثرهم كانوا ملتزمين بحسن الأدب والاحترام في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما ناداه بعض الأعراب السذج من وراء الحجرات نبهم الله وقرَّعهم ونصحهم بأن لا يرفعوا عنده أصواتهم، وعليهم أن يستمعوا إليه بغاية من الاحترام ومراعاة الأدب في مقام النبوة وهو معلمهم وهاديهم، فعليهم أن يأخذوا منه ويطيعوه فيما يأمرهم به.

التعاليم الاجتماعية ومقام النبوة:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” [الحجرات:6-8].

هذه الآيات القرآنية تعلم المؤمنين أن يتصفوا بالسداد والتواضع والاحترام، وعدم الاستعجال في أمرٍ مَّا، وإذا بلغهم خبر من الأخبار عليهم أن لا يبلغوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن فلانًا يفعل كذا وفلانًا يقول كذا، وحكمة هذا الأمر أن كثيرًا من الناس يقولون بنية سيئة، أو يكون وراءه سبب آخر، وأما من لا يعلم حقيقة الأمر فيقع في قيل وقال، ونتيجة لذلك يحدث سوء الظن وتنتشر أخطاء الفهم.

عن صفية بنت حُيي رضي الله عنها قالت: ” كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفًا، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي ليقلبني – وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد – فمرّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما،إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًا، أو قال شيئًا. [صحيح مسلم، كتاب السلام باب بيان أنه يستحب: 5808].

أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الأمر أنها زوجتي، مع أنه لم يكن أحد من المؤمنين ليتجرأ على إساءة الظن به، ولكن المرء مرء، يخطر بباله ما لا يظن، ولذلك وضّح النبي صلى الله عليه وسلم الأمر، لئلا يسوء ظنه فيتعرض إيمانه للخطر لأن سوء الظن بالرسول صلى الله عليه وسلم أو مجرد سوء الخيال يؤدي إلى ذهاب الإيمان وفساده.

ولذلك منع القرآن من ذكر كل ما سمع، ذاك أن ذكر الحادث المؤسس على سوء الظن أو خطأ في الفهم، يسبِّب تفشى أخطاء الفهم في الناس، ولذلك قيل إذا بلغ إليكم خبر غير موثوق بصدقه لا تذكروه، فإذا أتاكم رجل فاسق بخبر من الأخبار فتثبتوا من صحة الخبر، لئلا تصيبوا قوماً وأنتم جاهلون حقيقة الأمر، فتصيروا نادمين أشد الندم على صنيعكم، فعليكم أن تتورعوا في ذكر الأخبار والحوادث، وإذا بلغكم خبر لا تنقلوه إلى آخر قبل التثبُّت من صدقه وصحته.

وتدل الآية الثانية على أن لا تنقلوا كل ما سمعتم أو يحدث معكم من أمر، إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلو يسمع أخباركم ويطيعكم في غالب ما تشيرون عليه من الأمور لوقعتم في الجهد والهلاك، فلو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدّى ذلك إلى عنتكم وحرجكم، لأن إطاعة الرسول واجبة في كل ما عمله.

رسالة للأمة المسلمة:

يستفاد من الآيات الابتدائية من سورة الحجرات أنه لابدّ من مراعاة مقام النبوة، بحيث يظهر أثره في جميع أمورنا وشئوننا، وإذا حضرنا مجلسًا أو مكانًا يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يحدث فينا الشعور بعظمة من نسمع أقواله وفي أي مجلس نجلس وما هي مكانته وما يستحق من توقير وتعظيم؟ فنتجنب أن نحضر مجلسًا يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم ونحن غافلون أو لاهون، أو نتكلم مع أحد معارفنا لاهين ساهين، أو نحضر كما نحضر مجلس أصدقائنا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي استأثر به الله واختصه لنفسه، وأعطاه الله عظمة ورفعة بحيث أنه إنسان ولكن ليس كعامة البشر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم أنا بشر، أفعل كما يفعل الناس، ولكن الله جعلني نبيًا، فإنه صلى الله عليه وسلم ممتاز بشرف النبوة، ففاق به الناس جميعًا مع أنه منهم،صلى الله عليه وسلم.

×