شعائر الله تعالى وتعظيمها (10/الأخيرة)

أخوة ضائعة… متى تعود وكونوا عباد الله إخوانا
29 سبتمبر, 2021
المنهج القرآني للدعوة ومعرفة أحوال من تدعوهم
11 نوفمبر, 2021

شعائر الله تعالى وتعظيمها (10/الأخيرة)

فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي

الصلاة:

الشعيرة الرابعة من شعائر الله تعالى، هي الصلاة التي أودع الله فيها خصائص غريبة وصفات فريدة، تكسب مَن يؤدي الصلاة بمراعاة هذه الصفات، خيرًا كثيرًا، وقوة عظيمة، لأن الصلاة معراج المؤمن، ومعقله وملجؤه، وقد ذكر في القرآن أمران للتقرب إلى الله تعالى، وهما الصلاة والزكاة، اللذان ينال بهما المؤمن رضي ربه وأجرًا عظيمًا عنده: “إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” [البقرة:277].

العمل المحبوب:

إن أحبّ الأعمال عند الله تعالى، هي الصلاة، وهي فرضت من فوق سبع سماوات في المعراج، ويحصل بها سمو روحاني، وإشراقات ربانية وتجليات إلهية، وتتنزل فيها رحمات وبركات، ويتقرب بها العبد إلى ربّه، فلابد من اختيار الطريقة الصحيحة والاتصاف بصفات الإخبات،والخشوع والخضوع، وحضور القلب، التي بيّنها القرآن الكريم والسنة النبوية، وباختيار هذه الصفات ينتقل العبد من الطبيعة الأرضية إلى السمة السماوية.

وإن عمل عبادة الصلوات ليس بمفروض كل وقت، ليتيسر أداؤها للعبد، أنها فرضت خمس مرات في الليل والنهار،وأداءُ الصلوات يستغرق نصف ساعة أو ربع ساعة فحسب، ولكن يتحقق القبول عند الله إذا تمّ أداؤه بالإخلاص والإخبات، كما ورد في مدح الصحابة في القرآن الكريم: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ” [الفتح:29] وورد ذكر تأثير الصلاة وفائدتها في موضع آخر في القرآن: “إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ” [العنكبوت:45].

الفرق بين الصلاة والعبادات الأخرى:

علّم الإسلام، وهو الدين الحق، أربعة أعمال للعبادة لنيل الزلفى والتقرب عند الله تعالى، وهي: الصلاة والزكاة، والصوم والحجّ، وإن ثلاثة منها سوى الصلاة، فرضت حسب الاستطاعة والقدرة، ولكن الصلاة مفروضة دائمة ما دام العبد حيًا، وقال عز وجلّ: “وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ” [الحجر:99].

فالصلاة في الواقع قنطرة بين الأرض والسماء، وعبادة ينتقل بها العبد من العالم الأرضي إلى الملكوت الدائم، ووسيلة عظيمة للدخول في الجنة، وقد وعد الله عباده بأجر عظيم إذا أديت الصلاة بخصائصها وشروطها وآدابها.

الصلاة سلاح المؤمن:

جعل الله تعالى الصلاة ذات صفات عظيمة وخصائص فريدة، وهي تغذى الإنسان غذاءً روحيًا، ووجبة روحية وحقنة صحية، وتقرِّب العبد إلى الرب، وهي مفزع المؤمن إذا حزبه أمر، ومعقله إذا أصابته مصيبة، وهي سلاح له لمواجهة المصائب والآلام.

لما قام الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى الإسلام علنًا، قام كفار مكة بمنع العرب من الإسلام بطرق شتى؛ كانوا يظلمون المسلمين ويذيقونهم أنواعًا من العذاب، ولذلك كان المؤمنون في بداية الأمر يخفون إسلامهم، وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الإسلام سرًّا ثلاث سنوات، ثم نزل الأمر بجهر الدعوة علنًا كما ورد في سورة المدثر: “يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ” [المدثر:1-3].

فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام جهارًا، ونتيجة لذلك بدأ كفار مكة يمارسون ألوانًا من الظلم والاعتداء والتعذيب ضدّ المؤمنين، واضطر المستضعفون من المؤمنين أوالذين لم يكن لهم سند قوى إلى احتمال الأذى والصبر على ما يصيبهم من الظلم والاعتداء،كانوا يُسحَبون ويُجرون على أحجار محمرة، ورمال محرقة حتى لفظ بعضهم أنفاسه الأخيرة، وإذا بلغ الأمر مداه وطمّ الوادي على القرى قال بعض الصحابة: “يا رسول الله! إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة” [ سنن النسائي، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد: 3099].

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته الصادقين المخلصين: نحن لا نستطيع أن ننتقم منهم أو نقاومهم، فاصبروا واستقيموا على الدين، وكفوا أيديكم، وأقيموا الصلاة، وقد أشار القرآن إلى هذا الوضع في مكة: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ” [النساء:77].

تميُّز الإنسان عن سائر المخلوقات:

خلق الله وهو خالق الكائنات والموجودات كلها، الإنسان، وفضله على المخلوقات الأخرى تفضيلاً، وأظهر هذه الفضيلة بأمر الآخرين بالسجود أمامه، ومن لم يخضع لهذا الأمر عاقبه، لأن سائر المخلوقات قد خلقها الله تعالى، فعليها أن تمتثل بما يأمرها به ويحبه، ولكن تفضيل الإنسان وتميزه لم يكن تميزًا ذاتيًا، بل إنه مؤسس على طاعته لأمر ربه وتمثيله ما يحب ربّه ويرضى، ومجال طاعته هي الحياة الدنيا، فعليه أن يعمل أعمالا صالحة وفق ما أنزله الله على عبده النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة وهي السنة النبوية، ليجد جزاءه الأوفى وهو دخول الجنة.

والله عليم خبير بما يقع في الدنيا ومن فيها، وكذلك السموات وما فيها، وكل عمل يعمله العبد، يراه الربّ تعالى كل وقت، إنه يعلم هل يعمل الإنسان ابتغاء مرضاة ربه أو لغرض آخر، وهل عمل مدى قدرته أم لم يعمل؟، أَغرق في ملذات الدنيا أو ذكر اسم ربه وتزكى وجعل نفسه جديرة مستحقة للزلفى والقبول عند الله عزّ وجلّ؟ ومن أهم وسائل نيل هذه القربة والزلفى، ومثل أعلى لذلك، هي عبادة الصلاة التي يقوم العبد فيها أمام ربه بغاية من الإخلاص والخشوع والخضوع متزكيًا من كل ما يلوث الصلة بين العبد والرب في الحياة الدنيا.

طرق عبادة المخلوقات الأخرى:

جعل الله تعالى الإنسان أشرف المخلوقات، وأعطاه نعمة الصلاة لعبادته، وإن الصلاة تختلف اختلافًا تامًا عن سائر الطرق التي أعطاها المخلوقات الأخرى للعبادة، مع أن سائر المخلوقات خاضعة لأمر ربّها وتسبح له، وإن كانت طرقها وهيئاتها مختلفة، يقول الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله في كتابه “الأركان الأربعة”:

” لقد ظلت الشمس مشرقة وهاجة منذ كان هذا الكون، تنشر النور، وتمنح الحياة والحرارة، وظل القمر سراجًا منيرًا ينير السبيل، ويحدد الشهور والسنين، وقد انتصبت الجبال قائمة من آلاف السنين تبلغ رسالتها، ووقفت الأشجار على قدم وساق، وافرة الثمار وارفة الظلال، تعبد الربّ وتخدم الإنسان – سيد هذا الكون وخليفة الله في أرضه – وانطلق الهواء يحمل رسالة الحياة لهذا الإنسان، وهبّت الرياح لواقح تحمل أمانة الماء من جهة إلى جهة، وسارت السحب تحمل الأمطار وتحيي الأرض بعد موتها، وجرت الأنهار تروي ظمأ الإنسان، وتسقي الزروع، وتثير دفائن الأرض، ومشت  الحيوانات والدّواب على أربع، كأنها في ركوع دائم، تنقل الإنسان من مكان إلى مكان، وتحمل الأثقال، وله فيها دفء ومنافع، ومطاعم ومشارب، وزحفت كثير من الحيوانات على صدرها وبطنها، فيها مآرب للإنسان.

فهذه المخلوقات التي لا عقل لها ولا قلب، في عبادة دائمة، في طاعة وخضوع لأمر الله تعالى، فلا عصيان ولا ثورة، ولا تمرّد ولا جموح، ولا ملل ولا سآمة، ولا إضراب ولا انقطاع عن العمل، ولا راحة ولا عطلة، فكأنها دائمًا في السجود: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ و-َكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ” [الحج:18]، “وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ” [النحل:49-50]، “وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ” [الرعد:15]، “الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ” [الرحمن:5-6]، “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” [إبراهيم:32-34].

فهذه المخلوقات على اختلاف أنواعها،وعلى تنوُّع عباداتها في صلاة، تتفق مع طبيعتها ووظيفتها، وفي حمد وتسبيح لا يفقههما إلا من فتح الله بصيرته ورفع عنه الحجاب: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا” [الإسراء:44] “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ” [النور:41]. ].(الأركان الأربعة، ص:20-21)

أليق طريقة بالإنسان في العبادة:

لقد ميز الله تعالى الإنسان عن الكون، وجعله خليفة له في الأرض، فلم يكن من الجدير أن تكون طريقة عبادته مشابهة لطرق المخلوفات الأخرى للعبادة، بل كان من اللازم أن تكون طريقة عبادته أليق بما يقتضيه تميُّزه عن سائر المخلوقات، ولذلك أعطاه الله تعالى أغلى تحفة وهي صلاة تطابق كل المطابقة لوضعه الخاص ومركزه الدقيق، وقد أشار إلى ذلك الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى في كتابه ” الأركان الأربعة” (ص:51-52)

×