بالإسلام بدأ تاريخ السماحة

دول الخليج.. ومستقبل «التطبيع» مع الكيان الصهيوني
1 أكتوبر, 2020
الحروب الصليبية
1 أكتوبر, 2020

بالإسلام بدأ تاريخ السماحة

لقد بدأ الإسلام بوضع “لبنات عالمية إنسانية جديدة” وغير مسبوقة.. بدأ بالتأكيد على أن الله سبحانه وتعالى، هو رب العالمين: “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” [الفاتحة:2]، وليس رب شعب دون شعب، ولا أمة دون غيرها من الأمم، ثم أكد على أن الإنسان الذي كرمه الله بأن نفخ فيه من روحه ليكون ربانياً هو آدم أبو البشر أجمعين: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” [الحجر:28-29].

ولذلك، فإن التكريم الإلهي هو لمطلق الإنسان “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ” [الإسراء:70]، وليس هذا التكريم حكراً لشعب من الشعوب ولا لأبناء دين من الأديان أو حضارة من الحضارات.

ونفى الإسلام أن يكون التفاوت في مراتب القرب من الله سبحانه وتعالى، ثمرة “للصفات اللصيقة” (العنصرية) وجعل هذا التفاوت والتفاضل ثمرة لمعايير متاحة ومفتوحة أبوابها أمام كل إنسان، فالتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي معايير الصلاح في المعاش والمعاد: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” [الحجرات:13].

“لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا” [النساء:123].

ولم يحتكر الإسلام النجاة لأبناء شريعة دون الشرائع الأخرى التي جاءت بها الرسالات السماوية في إطار الدين الإلهي الواحد، وإنما أكد على أن: “فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” [الزلزلة:7-8]، وأشار إلى أن الذين آمنوا بوحدانية الذات الإلهية وبالغيب واليوم الآخر والحساب والجزاء، وعملوا صالحاً في حياتهم الدنيا، وفق أية شريعة من الشرائع الإلهية الحقة، لا يمكن أن يستووا بالذين جحدوا الحق بعد أن عرفوه، فكفروا بالألوهية الواحدة، وبالغيب، ولم يعملوا صالحاً، وتنكبوا كل شرائع السماء، “إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” [البقرة:62].

ورفض الإسلام كل الفلسفات والأنساق الفكرية التي زعمت واجتمعت على أن العنف والقتال وسفك الدماء هي “غريزة وجبلة” مركوزة في طبيعة الإنسان، وقرر أن القتال استثناء، وليس القاعدة، وشذوذ عن طبيعة الفطرة السوية، وأنه مكتوب ومفروض على هذا الإنسان، بل ومكروه من الإنسان الذي يرتقي إلى المستوى الحقيقي للإنسان، قرر القرآن الكريم هذه الحقيقة غير المسبوقة، عندما قال: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ” [البقرة:216].

وبينت السنة النبوية هذه الحقيقة القرآنية عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، وأكثروا ذكر الله”(1).

بل وبلغ الإسلام على هذا الدرب غير المسبوق إلى الحد الذي أوجب فيه العدل حتى مع من نكره: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” [المائدة:8].

“وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا” [المائدة:2].

بل والعدل حتى مع من نقاتل رداً لعدوانه علينا: “فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ” [البقرة:194].

كما سن الإسلام قواعد “للفروسية الإسلامية”، غير مسبوقة ولا ملحوقة، في تاريخ الحروب، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن قتل النساء والولدان، وكان إذا بعث سرية قال لهم: “اغزوا باسم الله، في سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا – أي لا تخونوا – ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً”(2).

ولقد صاغ أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه (51ق.هـ – 13هـ / 573-634م) – وهو على رأس دولة الخلافة الراشدة – هذه السنة النبوية “وثيقة لشمائل الفروسية الإسلامية” عندما أوصى “يزيد بن أبي سفيان” (18هـ / 639م) وهو يودعه أميراً على الجيش الذاهب إلى الشام، فقال له: “إنك ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وإني أوصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً، ولا تفرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن”(3).

فشملت أخلاقيات الفروسية الإسلامية آداب التعامل مع الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد، لأن “الخليقة – الطبيعة” كلها حية، تسبح خالقها، وإن لم نفقه لغاتها في التسبيح، فالعلاقة الإسلامية بها هي علاقة تآخ ورفق وارتفاق، وليست علاقة قهر وتدمير واستغلال.

وفوق كل ذلك، حصر الإسلام أسباب ومبررات استخدام هذه الضرورة وهذا الاستثناء – القتال – في أمرين اثنين، هما: رد العدوان عن العقيدة، ليتحرر الضمير، ويكون الدين كله لله، ورد العدوان عن الوطن – الذي هو وعاء إقامة الدين – وذلك بردع الذين يخرجوننا من ديارنا أويظاهرون على إخراجنا من الديار: “عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” [الممتحنة:7-9].

بل وحتى هذا القتال – الاستثنائي، المكروه، والمفروض – قد جعله الإسلام “تدافعاً”، المقصد من ورائه تعديل المواقف، وتحقيق التوازن العادل، ليحل محل الخلل الفاحش، وصولاً إلى التعايش بين الفرقاء المختلفين، وليس “صراعاً” يستهدف أن يصرع طرف الطرف الآخر، فيلغيه، فالتعددية والاختلاف والتمايز سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، وإذا كان “الصراع” ينتهي بإلغاء هذه التعددية، والقضاء على الآخر “فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ” [الحاقة:7-8]، فإن المقصد الإسلامي هو الإبقاء على التعددية، وتحقيق التوازن والتعايش بين فرقائها – بالتدافع لا بالصراع – “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” [فصلت:34] فالتدافع سبيل للحياة، ولإصلاح الحياة، بينما الصراع هو طريق الفناء.

صنع الإسلام ذلك كله، حتى مع المشرك الذي يعبد الأوثان والأصنام من دون الله، أما مع أصحاب الشرائع الدينية، الذين جاء الإسلام وكل منهم ينكر الآخر ويلعنه في صلواته ويصب عليه ألوان الاضطهادات والإبادات بحسبان ذلك مما يقربه إلى الله، فإن الإسلام – في تعامله مع أهل هذه الشرائع – قد أضاف إلى تقريره وحدة الألوهية والربوبية لكل العاملين، ولكل عوالم المخلوقات، أضاف إليها عقيدة الإيمان بكل الكتب السماوية التي نزلت، وجميع النبوات والرسالات التي سبقت، وسائر الشرائع الإلهية التي توالت منذ آدم إلى محمد، عليهم الصلاة والسلام.

فوحدة الدين والملة عبر التاريخ الإنساني تجعل جميع الأنبياء أبناء أب واحد – دين واحد – وتجعل شرائعهم المتعددة تنوعاً في إطار الدين الواحد؛ فأمهاتهم – شرائعهم – شتى، وأبوهم – دينهم – واحد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما أكد هذه الحقيقة، فقال: “الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد”(4)، وقال تعالى: “لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ” [البقرة:285].

وبهذا الأفق الإسلامي في السماحة، احتضن الإسلام الكل، وجعل الإيمان فيه شاملاً لكل ما أوحت به السماء على مر تاريخ الوحي إلى كل الرسل والأنبياء، وبذلك – ولأول مرة في التاريخ – جعل الإسلام “الآخر” جزءاً من “الذات”، فتجاوز بهذا المستوى غير المسبوق في السماحة مجرد الاعتراف بالآخرين، فكتبهم، التي يعترف علماؤهم بتلفيقها ووضعها وتحريفها، لم يعمم القرآن الكريم عليها هذا التحريف(5)، وإنما تحدث عن هذه الكتب فقال:

“اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ” [آل عمران:1-3].

وقال: “وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ” [المائدة:46].

ولم ينه الإسلام الذين آثروا الشرائع الأخرى عن الاحتكام إلى ما بين أيديهم من الكتب، بل أمرهم بتحكيمها: “وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ” [المائدة:47]، “وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ” [المائدة:43].

ووجدنا تطبيقات هذا الموقف، غير المسبوق في حوار الصحابي “حاطب بن أبي بلتعة” (35 ق.هـ – 30هـ / 586-650م) مع “المقوقس” عظيم القبط بمصر، عندما حمل إليه “حاطب” كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة (7هـ / 628م)، فقال له: “إننا ندعوك إلى الإسلام: الكافي به الله فقد ما سواه، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به!” (6).

كذلك بلغ الإسلام على درب العدالة والموضوعية والإنصاف الحد الذي جعله لا يهمل الفروق الدقيقة بين فصائل وتيارات أي “آخر” من الآخرين، فلم يعمم الأحكام ولا الأوصاف على أهل الكتاب، وإنما رأينا القرآن الكريم يقول:

“مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ” [آل عمران:113].

“وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ” [آل عمران:199].

“وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” [آل عمران:75].

فلا يسوي القرآن ولا يعمم الأحكام والأوصاف على فصائل أهل الكتاب وتياراتهم وفرقهم، ثم يقعد لقاعدة “عدم التعميم” هذه فيقول: “لَيْسُوا سَوَاءً” [آل عمران:113].

ولم يقف الإسلام بهذا الأفق غير المسبوق في السماحة والتسامح عند “الآخر” المتدين بديانات سماوية فقط – أهل الكتاب من اليهود والنصارى – وإنما امتد به ليشمل المتدينين بالديانات الوضعية، فتركهم، هم أيضاً، وما يدينون، وعاملهم في الدولة الإسلامية معاملة أهل الكتاب، فعندما فتح المسلمون فارس – وأهلها مجوس يعبدون النار، ويقولون بإلهين، أحدهما للخير والنور، والثاني للشر والظلمة – عرض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (40 ق.هـ – 23هـ / 584-644م)، أمرهم على “مجلس الشورى” – الذي كان يجتمع بمسجد المدينة، في مكان محدد، وأوقات محددة، وكان عمر يجلس معهم فيه، ويحدثهم على ما ينتهي إليه من أمر الآفاق والولايات والأقاليم، فقال لأعضاء مجلس الشورى:

  • كيف أصنع بالمجوس؟

فوثب عبد الرحمن بن عوف (44 ق.هـ -32هـ / 580-652م) فقال:

  • أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “سنوا فيهم سنة أهل الكتاب”(7).

فعوملت الديانات الوضعية معاملة الكتابية، وجاء الفقهاء فقعدوا هذه السنة النبوية، وهذا التطبيق الراشدي لها، فقالوا: لقد كانت لهذه الديانات كتب ثم ضاعت.

وحتى ندرك سمو هذا الأفق الإسلامي الجديد، في السماحة والتسامح، والذي بدأ الإسلام به التاريخ الحقيقي للسماحة في مسيرة الإنسانية وشرائعها وفلسفاتها وحضاراتها، نلفت الأنظار إلى حقيقة أن الإسلام لم يصنع هذا الاعتراف “بالآخر” والقبول لهذا “الآخر” وتمكين “الآخر” من إقامة عقائده، لم يصنع الإسلام كل ذلك باعتباره مجرد “مباح” وحق من حقوق هذا “الآخر” وإنما جعل ذلك فريضة إسلامية، وشرطاً لاكتمال الاعتقاد بعقائد الإسلام!

وأكثر من هذا، وفوقه، أن الإسلام لم يقف بذلك الأفق السامي عند “الآخر” الذي يبادل الإسلام اعترافاً باعتراف، وقبولاً بقبول، وإنما صنعه مع “الآخر” الذي ينكر الإسلام ويجحده ويكفر بمقوماته – وكل الآخرين الذين ينكر كل واحد منهم صاحبه، يجتمعون جميعاً، حتى هذه اللحظة، على إنكار الإسلام وجحوده والكفران به، فلا يؤمنون بأن قرآنه وحي سماوي، ولا بأن رسوله مبعوث إلهي، ولا بأن ما جاء به دين إلهي ومع كل ذلك وبرغمه، كان هذا هو موقف الإسلام – غير المسبوق وغير الملحوق – في الاعتراف بكل الآخرين، الذين ينكرونه ويجحدونه، بل لقد تجاوز الاعتراف بهم والقبول لهم ووصل إلى حد جعلهم جزءاً من “الذات”، ذات الدين الإلهي الواحد، وذات الأمة الواحدة، بل وجعل تميكنهم من حرية إقامة شعائرهم – التي ربما جحدت الإسلام – شرطاً من شروط اكتمال عقيدة الإسلام، وإسلامية دولة الإسلام!

فهل في تاريخ الدنيا والأمم والحضارات والشرائع والثقافات والفلسفات – قبل الإسلام وبعده – سماحة شبيهة بهذه التي بدأت بالإسلام، والتي تفرد بها الإسلام؟

الهوامش:

(1) رواه الدارمي.

(2) رواه البخاري، ومسلم، ومالك في الموطأ.

(3) رواه مالك في الموطأ.

(4) رواه البخاري.

(5) انظر كتاب (تاريخ نقد العهد القديم من أقدم العصور حتى العصر الحديث) تحرير زالمان شازار. (ص:31، 33-35، 37-39، 44، 50-52، 59، 60، 65-68، 70-74، 79، 80، 88، 89، 93-96، 98-101، 105، 107، 111، 117، 131، 144، 145، 156-160، 162، 165، 166، 174، 186، 187، 190، 192، 194-196، 205-207، 214، 215، 220، 222، 226) ترجمة: أحمد محمد هويدي، مراجعة محمد خليفة حسن، طبعة القاهرة، سنة 2000م.

(6) ابن عبد الحكيم (فترح مصر وأخبارها)، ص:46، طبعة لبدن، سنة: 1920م.

(7) البلاذري (فتوح البلدان)، ص:327، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، طبعة القاهرة، سنة 1956م.

(الدكتور محمد عمارة)

×