عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (3)

العلماء المسلمون وكفاحهم من أجل الحرية
14 سبتمبر, 2020
ذكرى حبيب ومنزل
1 أكتوبر, 2020

عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (3)

أنانية وكبرياء:

العامل الرابع هو الأنانية والكبرياء، إن صاحب الأنانية لا يطيق أن يرى أن يتفوق عليه أحد ويمتاز بشيء، إنه يريد أن يسير الناس وراءه، ولا يخالفوه في شيء، إنه يرى أنه هو القدوة، والمثل الكامل في كل شيء، وما أخطأه!، وكان من نصيب غيره، فلا خير فيه، وأنه هو المقياس الوحيد لكون الشيء خيراً أو شراً، هذه هي النفسية الإنسانية، التي يصاب بها الزعماء والقادة، وأصحاب الطموح عادة، وهي ضد النفسية الأولى، التي سميناها مركب النقص، وهي التي يسميها علماء النفس Superiority Complex وهي مغالاة المرء في الإيمان بتفوقه(1)، وقد أزاح الله عنها الستار بالآية القرآنية البليغة، فنقل مقالة هؤلاء المتكبرين، وقد نظروا إلى الذين آمنوا بالنبي المبعوث، ووضعوا أيديهم في يده، وهم ليسوا في درجتهم من الرخاء والجاه: “أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا” [الأنعام:53] وتارة قالوا: “لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ” [الأحقاف:11] وما حوادث الاضطهاد والتعذيب، والقتل والتشريد، التي حكاها القرآن عن المترفين، وأصحاب الحول والطول في عصور مختلفة، إلا نتيجة هذه الأنانية الجريحة، وانتقاماً لها من الذين تحدوها، أو أهانوها، أو تجاهلوها.

مثالان من التاريخ القديم والحديث:

وما قلت لكم أيها الإخوة إن الذي يفارق دينه، وتضطرب عقيدته ويثور عليها، يكون أشد عداءاً للإسلام، ومحاربة لأبنائه، حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها، وتاريخ الإسلام في العهود الأخيرة غنى بأمثلته وحوادثه، وتاريخنا المعاصر يحمل أمثلته ونماذجه، وأضرب لكم مثلين من تاريخنا الإسلامي في الماضي القريب، وفي العصر الحديث.

لعلكم سمعتم عن أحد ملوك الهند الكبار الامبراطور جلال الدين محمد أكبر (949-1014هـ)، لقد كان هذا الملك عريقاً في الإسلام، وجده ظهير الدين محمد بابر التيموري (888-939هـ)، هو الذي أسس الدولة المغولية في الهند، التي دامت ثلاثة قرون ونصف قرن، وكتب لها من الازدهار ومن التوفيق والإنتاج، في جميع مجالات الحياة الإنسانية، في مجال الحضارة، وفي مجال الفن المعماري، وفي مجال الثقافة، وفي مجال التنظيم الإداري، ومجال الفتوح الجديدة، وتوسيع المملكة، ما لم يكتب لدولة من دول الهند الكثيرة التي قامت فيها، وظهير الدين بابر هو الملك المؤيد المسلم، الذي لما رأى عجزه عن مقاومة جيش “رانا سانجا” الملك الهندوكي، الذي كان يفوق جيشه في العدد والعدد مراراً كثيرة، فكان جيش بابر مؤلفاً من عشرين ألفاً، والجيش المنافس أكثر من مائتي ألف (20,000) مقاتل، وجيش بابر جيش محصور، مفصول عن كل جانب، لا يطمع في مدد ولا في ميرة، فقد بعد عن مركزه وعاصمته آلافاً من الأميال، هنالك دعا القائد المسلم، وطلب النصر من الله، وأعلن توبته عن تعاطي الخمر، واقتراف المحرمات والمنكرات، وتوسل بذلك إلى الله، فكان النصر المبين، واستقام الملك على توبته وعهده، وجلال الدين أكبر هو حفيده، وقد نشأ أمياً، ونشأ على الروسية، وصناعة الحرب، ولم تسمح له ظروفه الخاصة بأن يتعلم، فنشأ أمياً لم يقرأ ولم يكتب، وقد أحاطت به حاشية من علماء وأذكياء طغت عليهم العلوم العقلية واضطربت عقائدهم، وقد زينوا له أن يدعو علماء كل ملة، ويعرضوا عليه عقائدهم، ويعرفوا بدياناتهم، وكان رغم أميته ونشأته العسكرية، صاحب رغبة جامحة في المناظرات والبحوث العلمية، وما أشدها خطراً على من لم يتعمق، ولم ينضج عقله؟! وكان يتسلى، ويتمتع بمناظرات العلماء ومطارحاتهم، كما كان يتسلى الملك القدماء، والأمراء المتنعمون بتناقر الديك وتناطح العنز، ثم إنه اطلع بذكائه، وبحكم اتصاله بعلماء البلاط على واضع الضعف عند هؤلاء، وشغف بعضهم بجمع الأموال والاكتناز، وكان رجلاً مرهف الحس انفعالياً، وكان في حرمه عدة بنات لأمراء الراجبوت، وكان أثرهن عميقاً في نفسه، كل ذلك زرع في نفسه الشكوك والشبهات، وأضعف صلته بالإسلام، حتى فارق هذا الدين، ونشأ على مر الأيام في صدره عداء للإسلام، حتى كان من شدة عدائه، أنه كان لا يسمع لأحد أن يسمى ولده محمداً، وأباح الخمر، وشجع على شربها، وحرم ذبح البقرة، وكان جزاء من ارتكب هذه الجريمة قتلاً، وصدرت عنه حركات صبيانية لا تتفق مع عقلة الكبير، وحنكته الإدارية، كالأمر بأن يدفن الميت من المسلمين بحيث يستقبل القبلة برجليه إهانة لها، وكان ينام دائماً بهذه الصفة، وأعلن أن النظر إلى الخنازير والكلاب في الصباح ثواب وبركة، غيظاً للمسلمين، وإهاجة لهم، وأمر بإخراج الحروف التي هي خاصة بالعربية من اللغة الفارسية والتركية، والمستعملتين في الدواوين والكلام كالثاء، والصاد، والعين وغيرها، كراهة للغة القرآن وانصرافاً عنها، وإنما يكون ذلك حين يتعدى العداء حدوده، فيصبح جنوناً، وكان الإسلام هدف استخفافه وسخريته، كأنه لم يكن هنالك شيء أحق بالمحاربة والإزالة وأكثر مجانبة للعقل والكياسة منه، وهذا قانون عام فإن العاطفة تخل الميزان، وتحمل على التطفيف في الكيل، وكان المسلمون هدف كل إهانة وسخرية واضطهاد، إنها قصة طويلة، مضحكة مبكية، يستطيع الإنسان أن يقرأها مفصلة في الكتب المعاصرة، وقد ذكرتها في بعض كتابي، ومؤلفاتي.

والمثل الثاني: هو كمال أتاترك الذي ليس عهده بعيداً عنا، وقد ولد في شعب مسلم عرف بحبه الشديد للإسلام، وبوقوفه بجوار الإسلام، وبحمله لرايته في قلب أوربا، إن هذا الرجل لما فارق هذا الدين لأسباب نفسية وخلقية وتربوية، شرحتها في كتابي “الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية” نصب حرباً على الإسلام والمسلمين، وقد كان له في قضايا الشعب، ومعضلات السياسة، وتحديات الدول المحاربة، والأخطار المحدقة بالبلاد، شغل شاغل عن المحاربة للإسلام والمسلمين، والقضاء على شخصية الشعب المسلم، الغيور المجاهد، وإزالة آثار الإسلام عن هذه البلاد العريقة في الإسلام والثقافة الإسلامية، وعن معركة القبعة(2)، وحرب الحروف اللاتينية، ومنع الأذان بالعربية، إلى غير ذلك من الإصلاحات، التي لا تقدم ولا تؤخر في نهضة البلاد، وقوة الشعب العسكرية، ولكنه كان يعتبر ذلك أكبر خدمة للبلاد والأمة، وانتصب محارباً للإسلام انتصاب عصامي، قوى الشكيمة، شديد العزيمة.

الهوامش:

(1) ويسميها بعض علماء النفس وأصحاب المعاجم بمركب الأعلوية أو الاستعلاء.

(2) إنه ألزم شعبه التركي لبس البرنيطه مكان الطربوش الذي كان شعاراً لهم، وشعار كثير من الشعوب الإسلامية، تقليداً للشعب التركي المحترم عندها، وشدد في ذلك تشديداً عجيباً، ذهب ضحيته كثير من المحافظين عليه والمدافعين عنه، اقرأ تفصيله في “الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية”، ص:66-67.

 

(الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله)

×