مظاهر الرحمة والبر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم

وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ
12 نوفمبر, 2020
رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأطفال
12 نوفمبر, 2020

مظاهر الرحمة والبر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم

قال تعالى: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ” [التوبة:128].

فالرسول عربي قرشي معروف النسب، لم يطعن أحد في صحة نسبه، وكرم محتده، فمخاطبة الله تعالى للعرب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم من أنفسهم تذكير لهم بأنه لهم ناصح ومحب، وعلى هدايتهم حريص، ووردت أحاديث كثيرة تبين بعض مظاهر الرحمة المهداة، والمتمثلة بالمصطفى عليه الصلاة والسلام، فمن ذلك وفاته صلى الله عليه وسلم قبل أمته ليكون لها سلفاً، ففي الحديث: “إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره”(1).

ومن وقائع السيرة النبوية أن ثقيفاً آذت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام حتى رشقوه بالحجارة وأدموا قدميه، وخيره الله أن يعاقب أهل مكة فيطبق عليهم الجبال، فقال عليه الصلاة والسلام: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً”(2).

وكان عليه الصلاة والسلام أمناً لأمته في حياته، كما أن الاستغفار أمن لها بعد وفاته، قال تعالى: “وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ” [الأنفال:33]، وهو في حياته ومماته رحمة وخير للمؤمنين، قال عليه الصلاة والسلام: “حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم”(3). وهو رحمة عامة كما في القرآن “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” [الأنبياء:107]، كما أنه نور يضيء طريق الهداية للناس، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا” [الأحزاب:45-46].

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم كل شيء، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا”(4).

وقد منح الله تعالى الأنبياء دعوة مستجابة، فتعجلوها ودعوا بها، أما الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد ادخرها لأمته كما في الحديث: “لكل نبي دعوة مستجابة فعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة”(5).

وتتجلى في رسالة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كل معاني الرحمة، فقد رفع الله عن أمته الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، فيسر لها الدين، ورفع عنها الحرج، قال الله تعالى: “هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ” [الحج:78].

وعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شعوره حين يسمع بكاء طفل ويستحضر وجد أمه عليه وهي في صلاة الجماعة فقال: “إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه”(6).

وقد امتلأت نفس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالرحمة، وأوصى أتباعه بأن يكونوا رحماء كما وصفهم القرآن “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ” [الفتح:29].

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: “ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم”(7)، وقال زيد بن حارثة: أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أن ابناً لي قبض فأتنا، فأرسل يقرئ السلام ويقول: “إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب”، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: “هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء”(8)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه: “..ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً”(9).

وقد شملت رحمته ووصاته بالرحمة الحيوان فضلاً عن الإنسان، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمررنا بقرية نمل قد أحرقت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: “إنه لا ينبغي لبشر أن يعذب بعذاب الله عز وجل”(10)، وعن سعيد بن جبير قال: “مر ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا”(11)، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “والشاة إن رحمتها رحمك الله”(12)، وقال عليه الصلاة والسلام: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته”(13).

وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب لأصحابه الأمثال، ويحكي لهم من أخبار الماضين ما يرسم في نفوسهم الرحمة، قال لهم مرة: “بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له”، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟فقال: “في كل كبد رطبة أجر”(14).

وهذا غيض من فيض، وكله يشهد لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة مهداة، وأنه غرس معاني الرحمة في أصحابه وأوصاهم بها، وملأ تعاليمه بذكرها، وشمل بها كل ذي روح من إنسان وحيوان، وسبق بذلك كل لوائح حقوق الإنسان الحديثة، وكل جمعيات البر والرفق بالحيوان مما يحسبه الناس من خصائص الحضارة الغربية وعطائها.

فلا عجب أن كانت بعثته رحمة للعالمين، وأن يعبر عن جوهر رسالته بقوله عليه الصلاة والسلام: “يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة”(15).

وسوف تظل تعاليمه تمسح جراحات المعذبين وتلمس حنايا المستضعفين وتلين قلوب المتجبرين وتملأ الحياة بالحب والدفء والرحمة.

الهوامش:

(1) صحيح مسلم 4: 1791-1792، حديث رقم: 2288.

(2) صحيح البخاري (فتح الباري 6: 312-313)، وصحيح مسلم 3: 1420.

(3) رواه البزار كما في كشف الأستار 1: 397.

(4) مسند أحمد 3: 268، والحاكم: المستدرك 3: 57 وصححه ووافقه الذهبي.

(5) متفق عليه واللفظ لمسلم (صحيح البخاري 7: 145، وصحيح مسلم 1: 189 حديث رقم: 199).

(6) صحيح البخاري 2: 202.

(7) صحيح مسلم 4: 2316.

(8) صحيح البخاري 2: 80، وصحيح مسلم 2: 635 حديث رقم: 923.

(9) صحيح مسلم 3: 1357 حديث رقم: 1731.

(10) أحمد: المسند 1: 296، وأبو داود: السنن 3: 126.

(11) صحيح مسلم 3: 1549-1550 حديث رقم: 1958.

(12) أحمد: المسند 3: 426.

(13) صحيح مسلم 3: 1548 حديث رقم: 1955.

(14) متفق عليه (صحيح البخاري 3: 77، وصحيح مسلم 4: 1761 حديث: 2244) واللفظ لمسلم.

(15) الحاكم: المستدرك 1: 35 وصححه وأقره الذهبي.

 

الدكتور أكرم ضياء العمري

×