الإرهاب الصهيوني وفتاوى الحاخامات

أنتم أكبر من أن تخط لكم ثغور يا أهل فلسطين
8 يونيو, 2021
شعائر الله تعالى وتعظيمها (6)
8 يونيو, 2021

الإرهاب الصهيوني وفتاوى الحاخامات

لعلنا لا نبالغ إن قلنا إن فكر “التكفير والإرهاب المقدس” هو الذي بات يتسيد في السنوات الأخيرة المجتمع الإسرائيلي على نحو يفوق ما كان عليه عبر العقود الماضية، إذ أصبح الوجه الإسرائيلي مكشوفاً تماماً بلا قناع، حيث غدا ذلك الفكر الإرهابي ينتشر سرطانيا دون كوابح قانونية أو أخلاقية،فأصبح الجميع لديهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار منخرطين إلى حد كبير في تعميم تلك الأدبيات الإرهابية، لتشمل أيضاً كبار الحاخامات اليهود.

فوفق كم هائل متراكم ومتزايد يوماً بعد يوم، من المعطيات والحقائق الموثقة الراسخة المتعلقة بمسيرة وقافلة الإرهاب الصهيوني ـ الإسرائيلي التي انطلقت منذ مطلع القرن العشرين على امتداد فلسطين، يمكن القول إن التاريخ البشري لم يشهد إرهاباً سياسياً، فكرياً، عقائدياً، عنصرياً، دموياً، منهجياً، مروعاً، مع سبق النوايا والتخطيط والبرمجة والإصرار على التنفيذ بأبشع الصور والأشكال، كالإرهاب الذي مارسته الحركة الصهيونية بمنظماتها وأجهزتها الإرهابية السرية ما قبل قيام الكيان الإسرائيلي، وكالإرهاب الرسمي وغير الرسمي العلني والسري، الذي مارسته ولا تزال الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على مدى العقود الماضية التي أعقبت قيام “إسرائيل”.

فقد أقدمت دولة “إسرائيل” على سبيل المثال خلال عدوانها الأخير على غزة، على تجنيد جيش من كبار الحاخامات اليهود، ليصبوا الفتاوى الدينية اليهودية مزيداً من الزيت على نار المحرقة في غزة، حيث انضم الحاخامات إلى طائرات ودبابات وسفن إسرائيل الحربية، والتي فتكت بأطفال ونساء وشيوخ غزة، فأصدر كبار حاخامات “إٍسرائيل” فتاوى تؤيد وتغطي ما يقوم به الجيش الإسرائيلي، وتؤيد بلا مواربة قتل الأطفال وحتى الرضع بدعوى أن الشريعة اليهودية لا تمانع في ذلك، كـ”عقاب جماعي للأعداء” وأخذ ذلك الخطاب التوراتي الدموي ضد الفلسطينيين يتسيد المشهد، وطفت على السطح فتاوى الحاخامات الذين أخذوا يستحضرون نصوصهم التوراتية من العهد القديم لإطلاق فتاوى القتل والفتك ضد من أسموهم العماليق ـ العرب الفلسطينيين ـ وأخذت تظهر بقوة نزعة العنف والإرهاب والإبادة.

ولا جديد في ذلك، فكثيرة هي نصوص “العهد القديم” التي تتحدث عن الحرب والقتل والتدمير والإبادة كأساس لأخلاقيات التعامل مع الشعب الأخرى، ومنها ما جاء في سفر التثنية”أن الرب يطرد من أمامك شعوباً أكثر وأعظم منك” وأن الرب إلهك يطرد هؤلاء الشعوب من أمامك ويدفع ملوكهم إلى يدك فتمحي أسماؤهم من تحت السماء:، ولكن الأبرز من بين هذه النصوص ما جاء في سفر التثنية أيضاً على شكل وصية توحي بالكثير من حوافز الإرهاب المقرون بكراهية استعلاء عنصري ضد الشعوب على اختلافهم، فقد جاء في النص:

“وحين تقرب مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعوب الموجودة فيها تكون للتسخير، وتستعبد لك، وإن تسالمك، بل إن عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل ما غنمتها فتغنمها لنفسك.

ونجد أن ما ورد في نصوص العهد القديم قد تم استغلاله من قبل رواد الفكر الصهيوني من خلال إسقاطاتهم لمضامينها على وقائع وأحداث معاصرة، تتعلق بالنشاط الصهيوني، وهكذا، نجد الداعية الصهيوني زانغويل يدعو “لطرد العرب بحد السيف”، أما كيف يكون ذلك، فإن داعية صهيونيا، آخر، هو مشوي سيملانسكي، تكفل بشرح ذلك قائلاً: “أمر بسيط للغاية.. سنزعجهم بغارات متكررة ـ أي بالإرهاب والمذابح ـ حتى يرحلوا”، أما تيودور هرتزل فإنه يذهب إلى أبعد من ذلك في التشبيه وفي توضيح النهج الإرهابي الذي سيسلكه الصهيونيون في التعامل مع عرب فلسطين”نسل العماليق” والشعوب السبعة الذين حاربهم العبرانيون بقيادة “يوشع بن نون”، وذلك حين قال في ما يبدو أنه خطة قابلة للتنفيذ” إن تأسيس دولة الآن لا يتم بالأسلوب ذاته الذي كان يستعمل قبل ألف سنة، إذ من الغباء العودة بالحضارة إلى الوراء”. ويضيف”فلنفترض على سبيل المثال، أننا أجبرنا على أن نخلي بلداً ما من الوحوش، فيجب ألا نقوم بهذا العمل وفقاً لأسلوب الأوربيين في القرن الخامس، كأن نأخذ الرمح ونذهب كلا على حدة للبحث عن الدببة بل يجب علينا تأليف حملة صيد كبيرة، ومن ثم تجميع الحيوانات كلها معاً، ونلقي وسطها القنابل الميتة”.

هذه العبارة تكاد توجز الفلسفة الصهيونية حول الاستعلاء وادعاء التفوق والتميز على شعوب لا ترقى في مستواها عن وحوش الغاب من جهة ومن جهة ثانية، حول نية عمل على “تنظيف” فلسطين من شعبها”المتوحش” بحملة إبادة جماعية.

وترتقي نزعة العنف والإرهاب إلى مستوى فلسفي مع تلميذ جابوتنسكي الأبرز والأمين الوفي لمدرسته، مناحيم بيجن، حين يؤكد أهمية العنف ـ الإرهاب ـ في صياغة التاريخ، إذ أن “قوة التقدم في تاريخ العالم ليست للسلام بل للسيف”. بل وصياغة الوجود الإنساني”أنا أحارب إذا أنا موجود” ليصل إلى القول محرضاً على القتل “كن أخي وإلا سأقتلك” وفي كتابه” الثورة” يقول بيجن:” من الدم والنار والدموع والرماد سيخرج نموذج جديد من الرجال، نموذج غير معروف البتة للعالم في الألف والثماني مائة سنة الماضية، اليهودي المحارب، أولاً وقبل كل شيء، يجب أن نقوم بالهجوم، نهاجم القتلة”، لكن من هم هؤلاء القتلة الذين يعنيهم مناحيم بيجن، من الواضح أنه يقصد العرب الفلسطينيين المدافعين عن وطنهم ووجودهم الإنساني.

أما دافيد بن جوريون، الزعيم الصهيوني الأكثر شهرة، وأول رئيس لوزراء “إسرائيل” فعبر عن إيمانه بان القوة والعنف وسيلة بعث حضاري لشعب إسرائيل ـ الامتداد الحديث لدولة”يهودا القديمة” قائلاً: “بالدم والنار سقطت يهودا وبالدم والنار ستقوم ثانية” وشبه المستوطنين اليهود في فلسطين”بالغزاة الإسبان الذين قضوا بقوة السلاح والنار على ملايين السكان الأصليين لأمريكا الوسطى والجنوبية” و”المستوطنين الأمريكيين الذين شنوا حرباً ضد الطبيعة المتوحشة، وضد الهنود الحمر المتوحشين”.

وما بين التراث التوراتي الدموي العريق في القدم، وبين فكرهم اليوم، فإن العلاقة قائمة وحيوية ومتجددة ومتكاملة، فمطاردة العماليق العرب في فلسطين مستمرة من وجهة نظرهم حتى يتم محوهم من الوجود، فما زالت تتواصل حمى الفتاوى التوراتية الداعية إلى إبادة الفلسطينيين،، فقد أفتى عدد من كبار الحاخامات في “إسرائيل” بأنه”يتوجب على اليهود تطبيق حكم التوراة الذي نزل في قوم”عملاق” على الفلسطينيين، وهو الحكم الذي ينص على قتل الرجال والأطفال وحتى الرضع والنساء والعجائز منهم، وسحق البهائم”.

ونقلت صحيفة “هارتس” العبرية 26/3/2008م عن الحاخام يسرائيل روزين رئيس معهد” تسوميت” الديني وأحد أهم مرجعيات الإفتاء عند اليهود قوله إنه “يتوجب تطبيق حكم”عملاق” على كل من تعتمل كراهية إسرائيل في نفسه”.

وحسب التراث الديني اليهودي فإن قوم “عملاق” كانوا يعيشون في أرض فلسطين، منذ قرون عدة مضت، وكانت تحركاتهم تصل حتى حدود مصر الشمالية، ويضيف التراث أن” الرب” كلف بني إسرائيل بعد ذلك بشن حرب لا هوادة فيها ضد العماليق”، وتلا روزين الحكم الذي يقول:”اقضوا علىعملاق من البداية إلى النهاية. اقتلوهم وجردوهم من ممتلكاتهم، لا تأخذكم بهم رأفة، فليكن القتل متواصلاً شخصاً يتبعه شخص، لا تتركوا طفلاً، لا تتركوا زرعاً، أو شجراً، اقتلوا بهائمهم من الجمل حتى الحمار”.

ولم تقتصر هذه الفتوى الغريبة على الحاخام روزين، بل أيدها العديد من حاخامات اليهود، وسارع الحاخام مردخاي إلياهو، الذي يعد المرجعية الدينية الأولى للتيار الديني القومي في إسرائيل، إلى تأييد تطبيق الحكم، ودائماً ما يشير إلياهو إلى إحدى العبارات التي وردت في الحكم والتي تقول:” اذكر عدوك وأبده” كما أيده الحاخام سلومو إلياهو الحاخام الأكبر لمدينة صفد، والذي كتب مقالاً مؤيداً لتطبيق حكم”عملاق” على الفلسطينيين يقول فيه:” لا توجد أي مشكلة أخلاقية في سحق الأشرار”.

وفتوى حكم “عملاق” ما هي إلا حلقة ضمن حمى فتاوى ضد الفلسطينيين، إذ كانت مجموعة من كبار الحاخامات في إسرائيل أصدرت صباح الخامس من مارس 2008م فتوى تبيح لجيش الاحتلال الإسرائيلي قصف التجمعات المدنية الفلسطينية، ولم يكن ما جرى في قطاع غزة لاحقاً من مذابح بمعزل عن فتاوى حاخام إسرائيل الأول كغيره من الحاخامات الذين تباروا في مباركة المجازر مانحين قادتهم السياسيين والعسكريين غطاء للتمادي في غيهم، ودعت مجموعة حقوقية إسرائيلية إلى “طرد كبير الحاخامات في الجيش الإسرائيلي فوراً وذلك بعد أن قالت إنه وزع على الجنود الذين يقاتلون في غزة منشورات تحثهم على عدم الرأفة بالفلسطينيين، وقالت مجموعة “ييش دين” لحقوق الإنسان إنها”وجهت رسائل إلى وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك ورئيس هيئة الأركان غابي اشكينازي تحثهم على اتخاذ هذا التحريض على محمل الجد وإقالة كبير الحاخامات في الجيش الجنرال افي روزنكي.

وكشف جنود من جيش الاحتلال الإسرائيلي النقاب عن”أن الحاخامات أبلغوهم ـ خلال العدوان على غزة ـ انهم يخوضون حرباً دينية على غير اليهود” وأضافوا:” رسالتهم كانت واضحة للغاية” وهي أننا”نحن الشعب اليهودي جئنا إلى هذه الأرض بمعجزة وأعادنا الله إلى هذه الأرض ونحتاج الآن إلى أن نقاتل حتى نطرد الأغيار الذين يتدخلون في فتحنا لهذه الأرض المقدسة (صحيفة “هآرتس ” العبرية 20/3/2009م).

وعززت الكاتبة الإسرائيلية عميرة هاس في هآرتس 17/3/2009م المضامين أعلاه قائلة:”جئنا لإبادتكم الموت للعرب، كاهانا كان على حق، لا تسامح، نريد الاغتيال، العربي الرجل هو العربي في القبر، هذه مجموعة مختارة تمثيلية من الكتابات التي كتبها جنود إسرائيليون على جدران منازل الفلسطينيين في غزة التي حولوها إلى قواعد ومواقع لإطلاق النار خلال عملية “الرصاص المصهور” هنا وهناك كتب جندي سلسلة من العبارات أو الاقتباسات التوراتية بهذه الروحية، كتب شتائم موجهة للنبي محمد ولإسماعيل هنية وذكر اسم فريق كرة القدم المفضل وترتيبات المناوبة بين الجنود.

إذن ـ نحن في الاستخلاص المكثف أمام مجتمع استعماري استيطاني إحلالي يقوم بعملية مزدوجة في الآن ذاته: سلب الأراضي والأوطان واستيطانها، واقتراف المجازر والمذابح والمحارق ضد أصحابها وأهلها تحت ذرائع “الإرهاب”و” العنف” و”التمرد” وغيرها، ونحن كذلك أمام مجتمع صهيوني بات ملوثاً بالعنصرية ـ الابرتهايد ـ بحيث أصبحت دولة” إسرائيل” الدولة العنصرية والإرهابية رقم 1 على وجه الكرة الأرضية، وغدت هذه النزعات تشكل أهم وأخطر مركب في الثقافة الإسرائيلية.

ونتوقف هنا في الخاتمة لنوثق، إذا كانت هذه اللغة الصهيونية قائمة منذ القدم منذ التوراتيين الدمويين الأوائل، وإذا كانت تمتد وتتواصل على مدى القرن الماضي، وصولاً إلى المشهد الراهن، فهل يستطيع أحد اليوم أن يجد فوارق حقيقية جوهرية مقنعة بين اللغة التوراتية الإرهابية العريقة، وبين اللغة الصهيونية اليوم؟. (مجلة العربي، الكويت، العدد: 616، مارس 2010م)

د. الكاتب والباحث الأردني نواف الزرو

×